Al Jazirah NewsPaper Monday  18/05/2009 G Issue 13381
الأثنين 23 جمادى الأول 1430   العدد  13381
بين الكلمات
العين تسبق القدر
د. عبد العزيز السماري

 

كان قدر العرب أن يعيشوا في مدار السرطان، وأن يعانوا كثيراً من الجفاف ومن قسوة الأرض وفقرها الشديد من الموارد الطبيعة، وجد كثيرٌ منهم الحل في الماضي في الهجرة إلى الشمال، إلى حيث المناطق الأكثر غنى بالماء وخيرات الأرض، أما أولئك الذين لم يرحلوا، لم يكن لهم بداً إلا بالصبر والعمل الشاق ضد فقر الطبيعة، لكن ثقافتهم أو فلسفتهم في الحياة وجدت في تبني ميكانزيم الحسد خير وسيلة للتعبير عن غضبهم وقدرهم وعجزهم أمام قسوة الأرض وظلمها أحياناً، لذا دائماً ما كانت تأتي العين كأول سبب محتمل لتفسير ظواهر العطش والمرض والفقر والموت..

دائماً ما كان يربط الأجداد بين معاناتهم وظاهرة الحسد، والذي كان يحكم بقبضة من حديد على حياة الناس في بادية وحاضرة نجد، ويحتكر تفسيرات مصائبهم وأمراضهم وفقرهم وموتهم، ويردها إلى العين التي تمثل أشد درجات الحسد، ف(نص القبر من العين)...، العين التي لا تزال تشغل هماً واسعاً في ذهنية سكان المنطقة العربية في حواضرها وبواديها، لدرجة أن أمثالهم الشعبية يتكرر فيها كثيراً ذكر الحسد والحسود الذي لا يسود، ومن طالع غيره قل خيره، وإلى درجة أن الأعمى لم يسلم حتى من الحسد على طول عكازه، والحسد يمثل أقصى درجات السلبية والعجز في المجتمع، واستسلام المجتمع لهذه المشاعر السلبية يعني إما فشلهم على تجاوز تحدياته أمام الطبيعة، وإما أنه يمثل أدنى مستوى لفلسفة القوة التي تعبّر عن رغبة الناس السلبية لاغتصاب ما عند الغير.. وعادة يفرق العرب بين الحسد والغبطة، فالحسد هو الرغبة السلبية في أخذ ما عند الغير، أما الغبطة فهي دعوة إلى محاكاة الإعجاب، والتقليد هو قمة الإعجاب..

طغيان ثقافة الحسد في المجتمع ميلاً نحو فلسفة الغلبة والقوة، وأن القوة والعنف والحسد هي من عناصر نظرية البقاء للأقوى، لكن الحسد بالتأكيد يمثل أدنى درجاتها، وتأتي هيمنة ثقافة الحسد في المجتمعات الدينية دليلاً على ضعف مقاومة الأخلاق وفشل التكافل الديني في المجتمع ضد الفردية والأنانية التي يمثل الحسد رمزها الأهم، وقد يكون تفسير هيمنتها على طبائع المجتمعات الإسلامية عدم قدرة الأخلاق على السيطرة على غرائز الفقر والحاجة، وانها أي الأخلاق مجرد سلوكيات عامة لا يمكن لها أن تحكم الواقع الإنساني..، ويظل الحكم النهائي فيه إلى توازن القوى،.. ويمكننا أن نقول إن لجوء أهل الصحراء إلى تقديم الحسد كقوة خارقة في المجتمع، وأداة سلبية تحكم العلاقات بين الناس دليل أنهم لا يثقون كثيراً بمناعة الأخلاق وبقدرتها على التحكم في معاملات البشر..

وصل الترويج إلى قدرة الحسد على تداول قدرات المواهب الأكثر موهبة في التحكم في مشاعر الحسد، أو أولئك الذين استطاعوا تحويل نواميس طبيعة الحسد اللا إرادية إلى قدرات إرادية، وإلى حد توجيه حسده المدمر أو عينه كما يشاء، على طريقة (تخير وين تبيها فيه)، فحكايات القطار الذي توقف أوالطيارة التي هبطت بسبب (عين) وجهها أحد الركاب إلى هدفه، يتداولها الناس من أجل تأصيل تفوق ثقافة الحسد على غيرها من الأخلاق الإنسانية، وكما قالت العرب إن (العين) تكون في ذروتها في المواجهة الأولى بين الحاسد والمحسود، وإن كان ذلك طائرةً أو قطاراً أو حتى قمراً صناعياً عابراً في سمائهم الصافية..

الحسد يعرف عند العلماء على أنه ثورة سلبية عند الإنسان، قد تقوده في نهاية الأمر إلى الخطأ أو المغالاة في التعبير عن هذه المشاعر إلى حد فعل الجريمة، وإلى القتل والاغتيال والتخريب..، وما يحدث من تأجيج لثقافة العين في المجتمع هو في واقع الأمر نشر غير مباشر لثقافة الشر، ودعوة إلى تقديم المشاعر السلبية على المبادرات الإيجابية...

قال الأصمعي: رأيت أعرابياً أتى عليه مئة وعشرون سنة فقلت له: ما أطول عمرك؟ فقال: تركت الحسد فبقيت..، ويزعم الفيلسوف نيتشه (1887 - 1967) أن الحسد هو السبب الرئيس خلف فكرة (الفناء العادل) المتأصلة في المسيحية، والتي يدور محورها حول مقاومة المستضعفين ولجوئهم للأخلاق والأصول الدينية في مواجهة قوى الحسد والشر..، لكنها في الغالب مواجهة غير متكافئة، فالعين (الشر) قد تسبق القدر (الخير)، والعين قد تُدخل الرجل القبر والجمل القِدر.. والله أعلم




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد