Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/06/2009 G Issue 13400
السبت 13 جمادىالآخرة 1430   العدد  13400
سحاب
صناعة الطالب القائد
د. عبدالإله عبدالله فهد المشرّف

 

مرّ عمر بن الخطاب على جمع من الفتية يلعبون في إحدى الطرقات، فلما رأوا عمر بن الخطاب هربوا جميعاً ما عدا فتى تبرق في عينيه سمات القيادة والثقة بالنفس، فأراد عمر بن الخطاب أن يتعرف على شخصية هذا الفتى فسأله عن السبب الذي منعه من الهرب كما فعل أصحابه، فأجاب الفتى بكل ثقة واعتداد بالنفس: لم تكن الطريق ضيقة فأوسع لك، ولم أعمل جرماً فأخافك، فسرّ عمر لشجاعته وحسن إجابته، وكان هذا الفتى هو عبدالله بن الزبير الذي كان خليفة للمسلمين لمدة عقد من الزمن.

لعل سمة بناء الشخصية أحد أهم السمات التي تميزت بها مدرسة محمد بن عبدالله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، فقد أنتجت هذه المدرسة في تلك البيئة الصحراوية الأمية، قادة العالم ومنابر الهدى الذي انتشروا في الأرض فأحدثوا انقلاباً في جميع المعايير الثقافية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية والعلمية وغيروها، لقد كان القائد عمر بن الخطاب يبني الشخصية القيادية لدى ابن الزبير عندما تساءل عن سبب بقائه، بل كان المجتمع كله ينبض بروح القيادة والريادة، فهذا ربعي بن عامر يقول لرستم قائد جيش فارس (جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة).

إن المحاضرات والندوات وورش العمل والبرامج التدريبية تُعدّ قنوات إثرائية تسهم في تنمية وعي الطالب بمفهوم القيادة وتعزيز بعضٍ من مهاراته القيادية، لكنها تظل محدودة الأثر ما لم يتم توفير بيئة قيادية متكاملة تُعنى ببناء القائد، وتسعى إلى تمكينه من ممارسة السلوك القيادي في جميع تعاملاته مع الآخرين، وفي تعاطيه للأحداث التي تمر به، ويغني عن كثير من القول نماذج قيادية حيّة يراها الطالب ويعايشها تجسد السلوك القيادي في الحياة اليومية وفي المواقف والأحداث الخاصة والعامة.

ينبغي أن يمارس الطالب سلوك القيادة في الصف، ويجب أن يرى الطالب المعلم القائد، والمدير القائد، وأن يعيش في بيئة تربوية قائدة. فبناء الفرد القائد هو مشروع وطني يستحق أن تسخر له الطاقات والإمكانات اللازمة، ولسنا نطالب أن يكون المجتمع كله قادة للتغير الاجتماعي، فهذا أمر خلاف الفطرة، لكننا ندعو إلى تنمية المهارات القيادية لدى كل فرد حسب إمكاناته وقدراته، فالأب قائد في بيته، والمعلم قائد في صفه ومختبره، والمدير قائد في إدارته، وإذا ما توفرت البيئة التي تسمح للقادة الموهوبين بأن يكتشفوا أنفسهم، وأن ينموا مهاراتهم القيادية، فإن المجتمع القائد حتماً سوف ينتج قادة عظام، يصنعون التغيير للوطن والأمة.

ولعلنا نتساءل هل توفر البيئة المدرسية لنا مناخاً لبناء المهارات القيادية في التعليم، هل يسمح النمط الإداري المركزي، ببناء الشخصية القيادية لدى أبنائنا وبناتنا، هل يمكن أن يمارس الطالب السلوك القيادي إذا كان المعلم لا حول له ولا قوى سوى تنفيذ التعليمات، وتحفيظ المفاهيم العلمية، وإذا كان المدير لا يمتلك من الصلاحيات ما يسمح له بتنظيم زيارة تربوية طلابية لأي جهة تعليمية إلاّ بعد موافقات ومكاتبات، وإذا كانت الحرفية في تنفيذ التعاميم اليومية هي معيار الجودة والتميز، وإذا كان الجمود هو السلامة التي لا يعدلها شيء، فلاشك أن بيئة مثل هذه البيئة لن تبنى سوى أتباعاً ونسخاً مكرورة من مجتمع متلقي جامد.

ولعل من الآثار السلبية التي تورثها الأساليب التربوية التلقينية، والأنماط الإدارية التنفيذية، والمركزية الفردية المحورية، هو تحجيم مساحة الحرية في صناعة القرار لدى أعضاء البيئة المدرسية، ومن ثم تذويب الشخصية القيادية للمدير وللمعلم والطالب، وتأصيل التلقي في منهج التفكير، وتعزيز سلوك الاتباع دونما نقد أو تقويم لكي يصبح المتعلم فيما بعد في أحسن أحواله تابعاً جيداً، وإذا كنا على قناعة بأن البيئة القائدة سوف تخلق لنا شخصية قائدة، فإن البيئة المدرسية النمطية الجامدة سوف تخلق لنا شخصية نمطية جامدة.

ونختم بقصتين نرى أمثالهما في حياتنا بشكل مكرر، فبينما كان موكب استعراضي يعبر أحد شوارع الضاحية، ارتفع صوت من بين الجمهور الغفير صائحاً: انتبهوا أيها الحمقى.! لقد ضللتم الطريق، وطريقكم هذا لا يؤدي إلى شيء سوى السراب والخطر، توقف الركب وفزع الناس: لكن كيف يكون ذلك.؟ تطلعوا إلى المقدمة بنظرة واحدة، وإذا بقائدهم يشق طريقه نحو الأمام في فخر وكبرياء.. فقالوا: لا شك في أنه يسير في الاتجاه الصحيح، فها هو يمشي شامخاً مرفوع الرأس..إنه حقاً يسير في الاتجاه الصحيح.. وانطلقوا وراءه بحماسة، لكن القائد الوسيم توقف وبدت على وجهه ملامح الفزع.. فالتفت وراءه يساءل نفسه: هل أنا في حلم أم في واقع؟.. لا شك أني أسير في الاتجاه الصحيح، فها هي الأعداد الهائلة من الناس تتبعني ولا يمكن إلاّ أن أكون على الطريق القويم، وأنطلق في مسيرته نحو الهاوية..!!!.

وتوجه بدوي أثناء الحملة الانتخابية بين الجنرال زاهدي و د. محمد مصدق في إيران في الخمسينات إلى أحد صناديق الاقتراع، وأخذ يسجد له ويقبّله، فسأله أحد الجنود: (ماذا تفعل؟ ما هذا إلا صندوق من خشب). فرد الرجل: (لا! إنكم لا تعرفون حقيقة هذا الصندوق. إنه صندوق عجيب ومقدس ويستحق أن يعبد). فقد صوّت الناس إلى مصدق لكن الذي فاز هو زاهدي.. فسبحان الله...!!!



amusharraf1@Riyadhschools.edu.sa

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد