Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/06/2009 G Issue 13400
السبت 13 جمادىالآخرة 1430   العدد  13400
بين الكلمات
في الموقف من زرياب..
عبدالعزيز السماري

 

كنت وما زلت أعتقد أننا خلال العقود الثلاثة الماضية نعيش ضمن مسارين متوازيين لا يلتقيان، وأن تواجدهما بدون نقاط اتصال أو التقاء هو أحد أهم أسباب بعض من أزماتنا الحالية، ويمثل الإرث الفقهي السلفي بمواقفه التاريخية الصارمة ضد كل ما يخالف الشريعة الإسلامية الاتجاه الأصلي الذي لا يزال يحمل تاريخ المنطقة في قيمه وتقاليده ومواقفه المتشددة ضد ما يخالف مبادئه وأصوله، ويظهر في الاتجاه الموازي تيار الاعتدال والوسطية بكل ما يحمل من مفاهيم متحررة نوعا ماً، والتي دأبت منذ الخمسينيات الميلادية من القرن الماضي على تخطي الموانع والحواجز بعفوية تامة..

كانت قوة الحزام الديني السلفي الملتزم تحكم سلوك وأخلاقيات مناطق نجد ومرتفعات الجنوب، وتنظم طريقة حياتهم من خلال محاربة الاتجاه الآخر، ويذكر التاريخ أن بعض شعراء الغزل غادروا هذا المناطق بسبب الموقف الديني المتشدد، بينما يختلف الحال عن ذك في الحجاز وسواحل الجنوب الممتدة إلى اليمن، فالترفيه عن النفس يتميز بحضوره الرسمي في احتفالاتهم الشعبية والرسمية..

يأتي على رأس هذا النزاع بين الاتجاهين الموقف من الغناء والموسيقى، وتظهر مناطق نجد وعسير كأحد أهم معاقل السلفية في (الجزيرة) التي تعظ وتدعو لحرمة الغناء والآلات الموسيقية، فمنذ فترة قصيرة كانت الأسرة في هذه المناطق ترفض رفضاً تاماً أن يمارس أحد أبنائها الغناء أو عزف آلات الموسيقى، وإذا حدث يتم نفيه أو مواجهته بعنف وقسوة، وكانت ممارسة الغناء في هذه المناطق تتم في الخفاء، وفي جلسات سمر خارج الإطار التقليدي والرسمي، وبعيدة عن مظاهر الالتزام الأخلاقي في المجتمع، والحال ربما لا يزال قريباً من هذه الصورة في بعض القرى، لكن بالتأكيد حدث شيء من التغيير، فأبناء من معاقل السلفية المتشددة صار لهم جولات في مجال الغناء، وإن كانوا مضطرين لاستعمال أسماء مختصرة أو مستعارة لا تشمل اسم العائلة..

ولأسباب يصعب حصرها يختلف الحال في الحجاز واليمن عنه في منطقة نجد وعسير فبرغم من الإرث الإسلامي العريق فيهما، تحضر الموسيقى في ثقافاتهم وفي حياتهم اليومية، ويتميز سكانها بذوق موسيقي رفيع، وأيضاً يذكر التاريخ أن أغلب المقامات والأصوات الغنائية خرجت منهما، وكان لهاتين المنطقتين أثر لا يستهان به في تاريخ الغناء والموسيقى في جزيرة العرب..

لكن المراحل المتأخرة في الزمن الحاضر تميزت باختراقات متبادلة بين الاتجاهين، فالبيئة المنضبطة بتعاليم الفقه الحنبلي في منطقة نجد خرج منها مطربون يصدحون بأصواتهم بجانب الآلات الموسيقية، بل أصبحت مجالاً للاستثمار المالي إما في قنوات غنائية أو شركات احتكار أصوات غنائية، وبرغم من محاولات بعض الدعاة ترويج أسلوب الإنشاد الإسلامي كبديل للموسيقى إلا أن تلك المحاولات لم تأخذ بعداً اجتماعيا ولم يكن لها رواج بين الجيل الجديد، فالنغم الموسيقي دخل إلى المنطقة المحرمة، وأشعل فتيل التغيير فيها، وسيكون من الصعب إخراجها منها بسهولة..، كذلك هو الحال في الحجاز واليمن، حيث خرج من بينهم من يقاوم الغناء والموسيقى، ويعظ بحرمتهما وبإبعادهما عن المظاهر الرسمية والشعبية.

لكن في خضم هذا الصراع بين تيارين ظننا يوماً ما أن لا تلاقي بينهما، جاءت الأنباء التي تتحدث عن قرب تعاون بين الشيخ السلفي المشهور عائض القرني ونجم الفن والغناء الموسيقي محمد عبده الذي يمثل الاتجاه الآخر من خلال إتقانه المدهش لمقامات الموسيقى في (الجزيرة) العربية، وكانت مقدمة مشروع التعاون المنتظر الإطراء والمديح الذي ناله الفنان والمطرب المشهور محمد عبده من قبل الشيخ الموهوب عائض القرني، وهي حسب وجهة نظري تعبر عن حالة اتصال قد تعطي انطباعا بقرب إعلان انتهاء حالة اللااتصال بين الفن والمنهج السلفي..وإيذاناً بضرورة إعادة الاعتبار لزرياب ورفاقه في تاريخ الموسيقى منذ العصر العباسي إلى الوقت الحاضر..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد