Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/06/2009 G Issue 13400
السبت 13 جمادىالآخرة 1430   العدد  13400
إسقاط الجدار
مايكل ماير

 

هذا سؤال سريع للمهووسين بالتاريخ. قبل عشرين عاماً - وبالتحديد في الرابع من يونيو حزيران 1989 - شَهِد العالم ثلاثة أحداث اشتركت في صياغة هيئة ذلك العام المصيري. والسؤال هو: أي من بين هذه الأحداث الثلاثة ظل عالقاً بذاكرتك، وأيهم كان الأكثر إسهاماً في تغيير العالم؟

أ) النهاية الدموية للاحتجاجات في ميدان السلام السماوي.

ب) بروز رجل الدين الإيراني الثوري الخميني.

ج) الانتخابات البولندية.

قليلون منكم قد يختارون الإجابة الثالثة، ذلك أن فوز حركة تضامن النقابية المعارضة الشهيرة في أول انتخابات حرة تشهدها أوروبا الشرقية منذ عام 1946 ما كان لينافس في الضجة الإعلامية تلك الحملة الدموية العنيفة في بكين أو وفاة الخميني الصاخبة في إيران. وعلى الرغم من ذلك فإن أي حدث منفرد ما كان ليقدم مثل ما قدمه ذلك الحدث لإسقاط الشيوعية في أوروبا وبالتالي إعادة صياغة النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب.

فقد أتت الأشهر القليلة التالية حاملة معها كل أشكال تأبين الشيوعية، وخصوصاً سقوط سور برلين في شهر نوفمبر تشرين الثاني 1989. لقد كانت لحظة مجيدة بالنسبة للعديد من الناس، ورمزاً لانتصار الغرب في الحرب الباردة، والحقيقة أن أحداً لم يكن ليتوقع تلك اللحظة. ولكن إذا راقبت تفكك الكتلة الشرقية من على الأرض فلسوف تُدرك أن العملية كانت أطول وأشد تعقيداً مما تصور أغلب الناس.

كانت الانتخابات البولندية بمثابة نقطة اللاعودة، اللحظة التي لم يعد من الممكن عندها أن تتراجع قوى التغيير، التي استجمعت زخمها بعد صيف من الإضرابات العمالية، حين استنتج زعيم بولندا الشيوعي الجنرال فويتشخ ياروزلسكي أن المتاعب الاقتصادية التي تعيشها البلاد كانت أكثر شراسةً من أن يتمكن من مواجهتها بمفرده. لذا فقد تصور أنه ربما يتمكن من تجنيد قوى المعارضة البولندية لمساعدته، إن لم يكن في حل المشاكل فعلى الأقل في تحمل المسؤولية عنها.

هكذا، وبعد ستة أشهر من المساومة والتفاوض، تم التوصل إلى اتفاق تاريخي، وتقرر أن تعقد بولندا انتخابات برلمانية حرة ونزيهة، وأن تشارك حركة تضامن في هذه الانتخابات. ولم يتبادر إلى ذهن الحكام الشيوعيين (ولا حتى تضامن ذاتها) أنهم قد يخسرون. ولم يخطر لهم حتى في أشد أحلامهم جموحاً أنهم قد يُطاح بهم من السلطة تماماً. إلا أن ذلك ما حدث بالضبط.

عندما نسترجع الأمر الآن فسوف نندهش حين نعلم أن ما حدث كان يحيط بوقوعه أي شك. فقد كانت حملة حركة تضامن في غاية الجرأة. ولقد نجح ملصق رمزي استخدمته الحملة في أسر المزاج الشعبي: فكان الملصق يحمل صورة جاري كوبر في دوره كمأمور الشرطة في فيلم الغرب الكلاسيكي High Noon. كان يوم الرابع من يونيو حزيران بمثابة يوم الحساب في دودج سيتي الشرق. ففي صباح يوم الأحد المشرق ذاك، وبينما كان الربيع في آخر أيامه والصيف على الأبواب، لم يهدر الناخبون أي وقت في إرسال الشيوعيين البولنديين إلى المجزر.

وفي يوم احتضارهم تمكن الشيوعيون البولنديون من تمرير انحراف أخير، وكان عملاً غير مقصود من الإذلال الذاتي المطلق. فقد ابتكروا نظاماً انتخابياً حيث لا يصوت الناخبون البولنديون لمرشحين من اختيارهم، بل يستبعدون المرشحين الذين لا يريدونهم أو ما يعني ببساطة كل شيوعي. وفي كل مكان كان الناس يستأصلون المستبدين المكروهين. هنا وبعد طول انتظار بدأت انتفاضة بولندا الشعبية، وبات بوسع الشعب البولندي أن ينتقم من أحداث ديسمبر كانون الأول 1980، حين أعلن ياروزلسكي الأحكام العرفية، وحظر حركة تضامن، وألقى بقادتها في السجن. وهكذا أصبح القلم أخيراً أقوى من السيف، وتحول إلى سلاح انتقامي مجيد.

وعلى النقيض من ذلك كانت حملة الشيوعيين تكاد تكون خفية. ففي كل وارسو لم يكلف سوى بضعة مرشحين حكوميين أنفسهم عناء تعليق اللافتات أو الملصقات في الشوارع. وكان أغلبهم يعولون على احتكار الحزب لوسائل الإعلام لحمل رسائلهم إلى الناس.

بعد مرور عشرين عاماً ما زلت متحيراً. فقد أدرك الذين كانوا يغطون الأحداث في أوروبا الشرقية، وكنت منهم، أن حركة تضامن سوف تفوز حتماً. وكنا نعرف أيضاً أن الانتصار السلمي سوف يكون بمثابة درس لبقية الكتلة. وبالنسبة لمناهضي الشيوعية في كل مكان كانت الانتخابات البولندية بمثابة وسيلة تشجيع غير عادية. فبفضل بولندا تحقق فجأة الحلم الذي كان يبدو قبل ذلك ببضعة أيام فقط وكأنه كان مستحيلاً.

ولقد ظهرت دلائل أخرى. ففي شهر مايو أيار بدأ الإصلاحيون في المجر تمزيق السياج على طول الحدود بين المجر والنمسا ثغرة في الستار الحديدي. وفي موسكو تحدث جورباتشوف عن (البيت الأوروبي المشترك) وتبرأ من مبدأ بريجينيف القائم على التدخل في شؤون الآخرين. ولكن عندما سقط الجدار، أجمع الخبراء وزعماء العالم على حد سواء على الاعتراف بأن ما حدث لم يكن متوقعاً. ويبدو أن الحرب الباردة طال أمدها إلى الحد الذي جعل التغيير يبدو بعيداً عن تصور كل الناس إلى أن تحطمت فجأة كل القيود التي كانت تكبل الحرية.

مايكل ماير كان رئيساً لمكتب نيوزويك لألمانيا وأوروبا الشرقية في عام 1989، وأحدث مؤلفاته كتاب من المتوقع أن يصدر قريباً تحت عنوان (العام الذي غير العالم).

* حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2009.
خاص «الجزيرة»
www.project-syndicate.org





 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد