كون الخبر ينتقل بين الناس في وفاة الشيخ رحمه الله أهون من كونك أنت أول من يصدم بهذا النبأ اتصل علي أحد المنقذين من موقع الحادث فقال هل تعرف الشيخ الوهيبي قلت نعم قال هو في ذمة الله أخذتني حالة من الذهول والدهشة وصرت اتصل بجوالات الشيخ قلت لعل الأخ وهم أو أخطأ لكن الهواتف مقفلة.
فعلمت أن القدر حل والمصيبة نزلت ومن كان يصدق أن الشيخ الذي كان بالأمس عندي يؤانسني ويضاحكني ويصبرني أرثيه اليوم.
اتصل المنقذ مرة أخرى ولعله أشفق على حالي فقال لي: لا تحزن أخرجت الشيخ من السيارة وقد عقد السبابة بيمينه مشيرا للسماء والمصحف بين يديه والسواك بين جنبيه. حقا وصدقا ذهب الروع عني واستبشرت بتلك الكرامة وتلك عاجل بشرى المؤمن فالشيخ أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه والشيخ رحمه الله خرج ومن معه من سجن الدنيا إلى رحمة الله فعلام الحزن إذا.
الشيخ بحمد الله مات مجيدا شهيد بإذن الله في طريقه إلى ميدان من ميادين الدعوة التي طالما تقلب فيها وهذه أمنية المؤمن. فحمداً لك ربي على حياة ثم ثبات ثم ممات (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت).
لم تكن علاقتي بشيخي الحبيب هي مجرد صداقة عادية أو علاقة سطحية فحسب، بل كانت صداقة حميمة وعلاقة عميقة واتصال وثيق وصلت جذور تلك المحبة والصداقة إلى صميم القلب فصرنا نعيش بهم واحد وقلب واحد.
ولذا سيكون حديثي عن الشيخ تغمده الله بواسع رحمته ومن معه حديثا يختلف عما طرحه الإخوة المحبون له.
إن من عرف الشيخ عن قرب وسافر معه واختلط به وناقشه ومازحه عرف في حياته أسرارا كثيرة لم يطّلع عليها الكثير لأن الشيخ عدوه الشهرة والبروز. لم تكن حاله كحال البعض الذين يحبون التلميع والظهور ويأتون بالغرائب والعجائب ليذكروا ويبرزوا بل كان يناصح أمثال هؤلاء حتى ولو كانوا من خاصة طلب العلم.
كتابتي عنه ليست كتابة عاطفية استدر من خلالها القلوب الرقيقة والدموع الحارة والعبرات المتدفقة فلقد سبقني في هذا بعض الإخوة وفقهم الله ونفع بهم. بل كتابتي هذه هي كتابة في عالم فذ وداعية مخلص وشيخ ناصح بذل جهده ووقته في الدعوة إلى الله ولست بهذه الكتابة أدعي أنني سأقف على كل أخباره وأسراره بل هذه مفاتيح صغيرة لتنير طالب العلم لمتابعة البحث حول جهود هذا العلم الفذ.
موضوعي هذا بعنوان دروس مستفادة من حياة هذا العلم (ومن كان مستنا فليستن بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة) وستكون محاور هذا اللقاء تحت العناوين الآتية:
الشيخ والعقيدة:
اهتم الشيخ رحمه الله بالجانب العقدي اهتماما بالغا وعمق هذا الجانب علما وعملا، ففي الجانب العملي حرص الشيخ على نشر كتب العقيدة وخصوصا كتب شيخه الودود سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله فكان يحرص على نشر مؤلفاته في مشارق الأرض ومغاربها، وكان رحمه الله إذا زار بلداً ينظر في أول احتياجاتها فيكون جل همه (المسجد) فإن كان موجوداً دعمه بما يحتاج وإن لم يوجد ساهم في البناء مع أهل الخير.
ثم اصدر -رحمه الله- أشرطة له من دروسه الأسبوعية في أصول العقيدة والتي لاقت قبولا واستحسانا بين طلبة العلم نظرا لجزالة مادتها وسهولة طرحها، وله أيضا إصدارات صوتية متميزة ومما عرفته عنه أنه يحرص على أن يوزع الشريط خيريا ولا يرتضي المكاسب المادية من ورائه، وفي المقابل له مؤلفات من أبرزها كتاب (الدين النصيحة) وقد أبدع الشيخ رحمه الله في جمع مادة هذا الكتاب. وقد حرص رحمه الله على حضور درس شيخه ابن باز وكان لا يفوته درساً إلا إن كان معذوراً.
وله نشاط دعوي ودروس أسبوعية داخل الرياض وخارجها ولعل من أبرز مواعظه رحمه الله كلمته الأسبوعية بعد صلاة الظهر في جامع عتيقة الذي يكتظ بالمصلين على الجنائز فهذا الدرس له مكانة وعناية واهتمام في قلبه ولا يعتذر عنه إلا في أشد الظروف.
الشيخ والدعوة:
عشق رحمه الله الدعوة وألفها وأحبها وأحب من أحبها وصارت همه الأول والأخير وخالط هذا الحب قلبه وطبق هذا الحب سلوكا عمليا فنشر الخير في بيته وفي حيه وفي أقاربه وفي مجتمعه الداخلي والخارجي ولا يكاد يدخل مسجدا ويصلي فيه إلا ويلقي كلمة محكمة مؤثرة بعد الصلاة ولذلك كسب الشيخ محبة الجميع وما شهود المسجد الغفير والمقبرة إلا خير دليل على ذلك الحب وأنتم شهداء الله في أرضه..
* زارني الشيخ وأخبرته عن محاضرة لي في شقراء تأخر فسحها فحزن الشيخ لهذا التأخر وقال لي غدا يأتيك الفسح وكان كما قال وهذا من فرط حبه لإيصال الخير للغير.
* في ليلة من الليالي عرضت على الشيخ بعض المخالفات في موقع (اليوتيوب) وأنه يعرض فيه عري وتفسخ، تأثر الشيخ أيما تأثر من بعض المشاهد وقام يخاطب بعض المسئولين والمهندسين المختصين في الكيفية المناسبة لحجب هذه المواقع وصار الشيخ يتابع معهم حتى وعدوه بتتبع هذه المخالفات وإن كان الخرق اتسع على الراقع والله المستعان.
الشيخ والإخلاص والتواضع:
الشيخ كما نعرفه ويعرفه الكثير يكره الأضواء ويحب التخفي وعدم الظهور ويحرص على التواضع ولم يكن كذلك فحسب، بل كان يربي محبيه على هذا الخلق ولكن الحق مهما أخفيته وأسررته لابد أن يبرز:
أضرب لذلك أمثلة: في ليلة من الليالي دعي الشيخ وكنت معه لقناة المجد لحلقة يلقيها بعنوان (منكرات الأفراح) وبعد وصولنا للأستوديو وقبل تسجيل الحلقة ألح علي بالمشاركة فشاركته تطييبا لخاطره لأنه لا يليق لمثلي أن يباريه بعد انتهاء الحلقة قال لي في أسلوب مهذب ومحبب يا محمد (يقصدني) قلت في الحلقة (رأينا، شاهدنا، نظرنا) وما كان ينبغي مثل هذه العبارة لأنها تدل على التفخيم والتعظيم فقلت له بارك الله فيك يا شيخ هل تصدق أنها جاءت عفوية لم أشعر بها.
الشيخ كما يعلم الجميع ترك التدريس وانتقل لوزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد من فرط محبته للدعوة فنقص راتبه الشهري بعد انتقاله لحقل الدعوة نقصا واضحا ولم يبال لذلك.
أذكر في مرة من المرات دخلت معه على أحد طلبة العلم وقد علق شهاداته في مكان بارز فقال له بأسلوب مهذب محبب أخشى والله أن يؤثر تعليق هذه الشهادات على مستقبلك الدعوي فليتك أخفيتها لحاجتها فشكره طالب العلم واستجاب لأمر الشيخ.
الشيخ والرحمة:
والشيخ له مواقف كبيرة وعظيمة ومشهودة في رحمة الناس والوقوف على حاجتهم وشؤونهم واذكر لذلك أمثلة:
* زارني الشيخ في بيتي ذات ليلة فرن الهاتف عليه فقال المتصل: يا شيخ ثلاثة من الشباب أنكروا على رجل بعض المخالفات بأسلوب رقيق لين لكن هذا الرجل لم يرتض النصح فرفع دعوى عليهم والآن هم في التوقيف.
والله تغير وجه الشيخ وقال إن شاء الله ما يصبحوا إلا في بيوتهم وبين أمهاتهم أغلق المتصل سماعة الهاتف. قلت يا شيخ لا تستعجل حتى تعرف ماذا حصل من أولئك الشباب فغضب وقال حتى أنت يا محمد حتى أنت يا محمد!! المهم ترك الشيخ رغباته ومشتهياته وصار يجري اتصالاته وعلاقاته حتى خلصهم من التوقيف بعد التأكد من كيدية الدعوى وبعد لحظات يتصل أولئك الشباب بالشيخ يبكون ويدعون، أي رحمة هذه.
* في ليلة من الليالي دعاني لبيته ويا سبحان الله وجدت عنده الفقراء وقد أقام لهم مناسبة كبيرة فقلت له: ما هذا؟ قال هذا واحد من الإخوة سنزفه الليلة لزوجته.
* أخبرت الشيخ بأحد طلاب العلم وأنه في ضائقة مالية ولا ينام الليل من هم الدين وربما هددوه بالسجن فاهتم رحمه الله لأمره وسعى في حاجته يداوي جرحه وأخذ جميع المستندات التي لديه وصار يلتمس الشفاعة لدى الموسرين والتجار حتى جمع المبلغ وأداه عن هذا المهموم.
فرح طالب العلم لموقف الشيخ وبكى من حرارة الموقف فيا رب جازه خير الجزاء على إحسانه وبره.
* وله رحمه الله مواقف تسطر بماء الذهب في سعيه في الإصلاح فضلاً عن جديته في لجان العفو عند ذوي المقتول وربما سافر المسافات الطويلة للشفاعة لآل فلان للعفو عن قاتلهم فكانت وجاهته محمودة ونيته خالصة وتوجهه صادقا ولذا أعانه الله ووفقه.
* الشيخ عبدالعزيز الوهيبي والممثل يونس شلبي رحمهما الله
الممثل يونس شلبي أصيب بمرض عضال لم يمهله طويلا وجاء للسعودية للعلاج وكان من أوائل من استقبله فضيلة الشيخ عبدالعزيز رحمهما الله الذي رحب به ودعاه وأكرمه كنت استمع لحديث الشيخ مع يونس شلبي وهو يصبره ويعزيه ويحثه على التوبة والإنابة وعدم اليأس والقنوط من رحمة الله وحثه على زيارة مكة والمدينة والاستطعام من زمزم مكة وعجوة المدينة والتضرع والدعاء إلى الله. وسبحان الله تأثر الممثل بكلام الشيخ لقد أحب يونس الشيخ حبا عميقا فصار يتصل به في كل يوم مرات عديدة والشيخ لم يفتر عن تصبيره وتثبيته ودعوته حتى توفي رحمه الله.
الشيخ والكرم:
الشيخ كريم مضياف لا أظن أنه يأكل وجبته وحده بل راحته وسعادته في مشاركة إخوانه بيته خلية نحل جمعت المحتاجين وأرباب الحوائج وطالبي الشفاعة وطلبة العلم والفقراء فيلبي حاجتهم ويقضي ديونهم.
كانت أمنيته رحمه الله أن يبني استراحة لطلابه وخصوصا من يأتون من خارج المدينة وقد استشارني فيما يناسب المهم بدأ في هذا المشروع وكانت نهاية المشروع بنهايته رحمه الله كان يقول لي يا محمد الإيجار اليوم غال على إخواننا الذين يزوروننا في الرياض وستكون هذه الاستراحة بمنافعها وخدماتها بمثابة السكن والراحة للطلاب والمغتربين فجزاك الله خيرا أيها الإمام وكافأك الله على قدر نيتك.
وكان رحمه الله يجيب الدعوات ويحضر المناسبات ومجلسه مجلس أنيس خصوصا إذا تحدث عن أخبار الماضين أو تحدث عن رحلاته العلمية والدعوية.
وفي مرة من المرات حضرت معه مناسبة وصار الحديث منصباً على حب القبيلة وصار البعض يتوسع في هذا الباب وبعد نهاية حديثهم فتح المجال للشيخ بالحديث وسبحان من ألهمه أطلق كلمات رائعة في حب الاجتماع والحذر من الفرقة والتشرذم ثم حذر الشيخ من التعصب الذي يشبه تعصب الجاهلين بصراحة كلمات في غاية الروعة جعلت السامعين كلهم يتأثرون بحديثه رحمه الله رحمة واسعة.
الشيخ وسعة الإدراك وقوة الفهم
وقد منحه الله قوة الفهم وسرعة الحفظ وسعة الإدراك سافرت معه في بعض رحلاته العلمية فوجدته بحرا من بحور العلم واسع الإدراك قوي الحجة واضح البيان يلقي خطبة الجمعة ارتجالا فينقلك من الدنيا إلى الآخرة في أسلوب مشوق وعبارة مقتضبة لايتلعثم ولا يتململ.
من أعجب مواقفه وهذه تنبئ أيضا عن نبوغه واهتمامه بالقرآن أنه كلما صلينا صلاة جهرية وفرغ الإمام من الصلاة علق على الآيات تعليقا بديعا بأسلوب فريد وعبارة راقية وجملة مؤصلة.
الشيخ والهيبة
الهيبة والوقار منحة ومنة من الله تعالى ليست سلعة تباع وتشترى ولا يمكن تصنعها، بل الهيبة ناتجة عن قوة الخشية وعظيم الارتباط بالله سبحانه وتعالى كانت هذه الخصلة من سمات شيخنا رحمه الله وكل من نظر إليه وجد هذه الهيبة في وجهه وكلامه ولذلك يندر أن يكون في مجلسه لغط أو تعد على المحرمات أو الحرمات.
الشيخ والمزاح
لا يعني من هيبة الشيخ أنه كان شديدا غليظا قاسيا بل كان رقيقا حليما مع أهله وأطفاله ومجتمعه، لن أنسى مداعبته لابني عبدالله ومضاحكته له فكم مرة انشد له وضحك معه أما عن حبه لأطفاله فكنا نجتمع بأولادنا جميعا خصوصا في الأعياد ويأتي لهم بالمفرقعات فيدخل السرور عليهم.
كان يحببهم في السباحة ويعودهم على القوة والشجاعة لن أنسى الجازي (حبيبة قلبي) وهي في المسبح في يد والدها يدربها على السباحة وهي في غاية السرور والفرح.
أما عبدالله ابن الشيخ فكان دائما ما يلاطفه فإذا دخل المجلس قال الشيخ يا عبدالله رحّب بالضيوف فيقول عبدالله بأعلى صوته (أرحب) فيسر الشيخ.
الشيخ والصحارى وحب البراري
كان رحمه الله داعية البر والصحارى والقرى والهجر والمدن فلا يدخل مدينة إلا نشر فضله فيها ولذلك أحبه الجميع من جميع طبقات المجتمع ومن عشقه للصحراء أحب الإبل فرباها وصار يتردد عليها كل أسبوع تقريبا وسماها بأسماء محببة له.
الشيخ ومشهد الجنازة والتغسيل والدفن
بحق وصدق كان مشهد التغسيل والصلاة والتشييع والدفن مشهدا مهيبا اكتظت الشوارع والطرقات بالمصلين والمعزين وأما ساحات المسجد وباحاته وأدواره فقد اكتظت بالمصلين ذرفت دموعهم وتحركت مشاعرهم.
فهذا فقير يبكيه وذاك طالب ينعيه وهذه ثكلى تذكر إحسانه وتيسيره فتذرفوا دمعا حارا لفقده، ومن أرق المواقف في المسجد أن البكاء والنحيب صار واضحا في المسجد يقول لي أحد الإخوة صلى بجواري أخوان أظنهم من البوسنة وبعد التكبيرة الثلاثة انفجروا بالبكاء.
أمّ المصلين سماحة مفتي عام المملكة وهذا يدل على محبة الشيخ لتلميذه.
اكتظت المقبرة بالمشيعين والمعزين من الأمراء والعلماء وطلاب العلم والفقراء وجميع طبقات المجتمع (موعدكم يوم الجنائز)
الشيخ والأميران
الأمير خالد بن طلال بن عبدالعزيز (ناصر الدعوة) هو الصديق الخاص للشيخ عبدالعزيز وكان الشيخ رحمه الله يثني على الأمير ثناء عطرا ويحبه حبا طاهرا ويذكره بخير في مجالسه.
الأمير شخصية مهذبة تتجلى فيها روح الأخوة الإسلامية لم ينس حبيبه في ساعة العسرة حزن لفراق الشيخ حزنا عميقا لقد كان له وقفات مشرفة ومشرقة فعند سماعه بنبأ الحادث ووفاة الشيخ ومن معه رحمهم الله كان يتابع جنازة الشيخ حتى وصلت الرياض ثم صار يتابع حالات البنات لحظة بلحظة حتى قال لوالد الشيخ في موقف مؤثر (بنات الشيخ بناتي وسنتكفل بعلاجهم في أي مكان) وقد كان له السبق في نقل بنات الشيخ عبر طائرة الإخلاء الطبي للرياض بتوجيهات سامية من ولاة الأمر وفقهم الله. زارنا الأمير في ليلة العزاء وعليه علامات الحزن لفقد حبيبه ثم صار يتحدث عن مناقب الشيخ مسليا ومعزيا سامعيه وفعلا لقد استطاع الأمير حفظه الله أن يسلي الحضور ويبدد الحزن.
الأمير نايف بن ممدوح بن عبدالعزيز
شكراً لك أيها الأمير ولا أراك الله مكروها شكراً لحب العلم شكرا لتقدير العلم شكراً لتوقير العلم الأمير نايف وفقه الله بعث لي برسالة كتبت بالدموع: غدا الصلاة على الشيخ عبدالعزيز الوهيبي وزوجه وبناته بعد العصر في جامع الراجحي لقد كانت رسالة تفتت الحجر من هولها.
الأمير نايف يحب الشيخ وحزن لفراقه ومن فرط محبته لرفيقه حضر مشهد الصلاة والتشييع والدفن وقف بين الناس في المقبرة رافعا أكف الضراعة مليئة بدموع الخشية داعيا بالمغفرة والرحمة لحبيبه وصديقه تقبل الله دعواتك أيها الأمير الصالح هاتفت الأمير بعد الحادث وتحدثت له عن مناقب الشيخ ثم سلاني بتلك الرسالة العجيبة التي وردت من بيشة مفادها أن أحد الإخوة في بيشة لم يكد يصدق بوفاة الشيخ فقد أرسل له الشيخ قبل يومين صدقات وزكوات لمحتاجي بيشة وقد أكد الشيخ على الأخ أن يسرع في توزيعها ولا يبقي مستحقا إلا أعطاه ثم قال الشيخ ولا تخبر أحدا عن مصدر هذه العطايا.
ثم أفرد الأمير حفظه الله في موقعه صفحة مستقلة في رثاء الشيخ تحت عنوان (من ذاكرة جوالي) للحديث عن مناقب الشيخ.
الشيخ والوقت
الشيخ رحمه الله يحترم الوقت احتراما بالغا ويعرف أن هذه الحياة دقائق وثوان والموفق من رسم خطا دقيقا وجدولا مستقيما لاستغلال الوقت.
كان دائما يؤكد علي (يا محمد احفظ وقتك، اهتم بوقتك) لن أنسى هذه الوصايا ما حييت.
وكان رحمه الله يحج كل عام ويذهب مبكراً للحج واعظاً ومفتياً ومرشداً فنفع الله به وبعلمه.
شكراً عادل شكراً متعب
شيخان فاضلان مخلصان صادقان عاشا معنا محنة وفاة الشيخ، ولا غرابة في ذلك فهما من خاصته وأصفيائه لهما بالشيخ رفقة أزلية عنوانها المعروف وشعارها الحب (الشيخ عادل المقبل والشيخ متعب الطيار) لقد تشرف هذان الشيخان بتغسيل الشيخ ونحن وقوف عند باب الانتظار فجاءنا المبشر بأن خاتمة الشيخ خاتمة حسنة فيمينه بالتسبيح معقودة. لن أنسى تلك الوقفة المجيدة من الشيخ متعب الطيار وهو على شفير القبر وينادي محبي الشيخ (ادعوا لأسد الحسبة فهو الآن في أول منازل الآخرة وهذا اقل واجب نقدمه لهذا البطل) كانت هذه الرسالة وان كانت قصيرة في معناها إلا أن مبناها أبكى السامعين واثر في الحاضرين فيا رب اجزهم عنا خير الجزاء واغفر لشيخنا ومن معه من أهله وولده.
والديّ العزيزان وزوجتي الباقية الغالية
هذه رسالة على لسان الشيخ:
والدي العزيز أمي الغالية: أعرف أن المصاب جلل والحادث كبير ولكن هذه إرادة الله وقضاؤه.
والديّ الكريمان: رفقا بحالكما وخففا الحزن وناما قريري العين فنحن في ضيافة الرحمان ومن كان في ضيافة مولاه فإنه لا يخيب ولا يضيق، لا تنسونا من صالح دعواتكم وفيض عطائكم والله يحفظكم ويرعاكم وفي الجنة نلتقي.
زوجتي الطيبة ومن تبقى من أولادي: الرحيل مر والفراق صعب فلا تطيلوا الحزن وتكثروا النحيب وإن تفرقنا هنا فالاجتماع هناك. أوصيكم بما كنا عليه من صلاة وصلاح وحفظ وطاعة حرسكم الله وحفظكم وعظم الله أجركم وجزى الله خيرا من عزى فينا ودعا لنا واعتبر بمشهدنا، وسلامي عليكم جميعاً.
وقفات
وقفة:
قبل رحيل الشيخ قال لي يا محمد خذ هذا البشت وكان مشلحاً جميلاً مطرزاً وقال لي البسه في الدروس والمحاضرات) كأنه بذلك يريد أن يربي محبيه على منهج الهيبة والوقار.
وقفة:
قبل بداية التسجيل لحلقة قناة المجد وكنت مشاركا معه في الحلقة ألح عليّ أن أساويه وأماثله في لبس المشلح وهذا دليل تواضعه رحمه الله حتى لا يتميز في الحلقة دون غيره فقال لابد أن تلبس المشلح فهو شعار الوقار ودليل الهيبة لكن استعطفت الشيخ بالمشاركة دونه فوافق رحمه الله.
وقفة:
من أرق المواقف في المقبرة أنه بعد دفن الشيخ وبجواره زوجته وبنياته وقف والده الشيخ الكريم محمد الوهيبي على قبر الابن البار في مشهد هز الحضور فقال: يارب يارب إن هذا ابني عبدالعزيز في ضيافتك أشهدك أني قد رضيت عنه فارض عنه. فبكى الحاضرون ثم تابع الدعاء لابنه وقرة عينه بعد ذلك انتقل لزوجة الشيخ ودعا لها وأشهد الحاضرين على رضاه عنها ثم ذهب لميمونة ووقف على قبرها ثم سلم عليها وقال السلام عليك يا ميمونة وأشهد الله على حبك ودعا لها في موقف مهيب ومشهد مؤثر.
رحمك الله يا شيخ عبدالعزيز ومن معك من زوج وولد لقد أبكيت الناس حيا وميتا لقد وعظت الناس حيا وميتا نعم كم من إنسان وعظته فأنقذته وكم من حيران دللته وكم من ضائق وسعت له فجزاك الله عنا خير الجزاء.
هل تصدق يا شيخي أن قصة موتك ومشهد جنازتك أحيا قلوبا صلبة ونفوسا ضالة وأرواحا مشتتة فرحمك الله رحمة واسعة وصبرنا الله على فقدك وعوضنا أجرا وثوابا.
لن أنسى مجلسنا العامر وحديثنا الماتع ونقاشنا الشيق لقد أحب الشيخ شقراء فلا يمر به شهر تقريبا إلا وهو بيننا يأتينا بكل جديد ويتحفنا بالمزيد.
وقفة:
كان عندي أحد طلاب العلم المشاهير ويسمع بالشيخ سماعا فقط دون لقاء به فكان يقول لي بحكم علاقته بالشيخ أسمع أنه شديد هل هذا صحيح؟ قلت له في عبارة مقتضبة (لو جالسته عرفته) ويا سبحان الله دارت الأيام ويكتب الله أن يلتقي طالب العلم هذا بالشيخ عبدالعزيز في مزرعتي ودار بينهما حوار طويل وكنت مستمعا وفي نهاية الحوار استأذن الشيخ عبدالعزيز لدعوة سيحضرها قلت لطالب العلم هذا هو الشيخ (إللي تسمع به) ما رأيك؟.
قال لي طالب العلم: يا محمد ما شاء الله أشهدك أنني أحببت هذا الشيخ في الله وفعلا ليس الخبر كالمعاينة وليس راء كمن سمع. وجدت فيه كرم الطبع وسلامة المعدن وطيب المعشر.
وقفة:
هذه وقفة مع أم البنات رحمها الله زوجة الشيخ لأقول لها هنيئا لك هذا الذكر الحسن والسمعة المجيدة. هنيئا لك تلك الخاتمة الفريدة هنيئا لك يا حاملة القرآن ويا مربية الأجيال هنيئا لك على هذه التربية الجادة التي أظهرت ثمرا ناضجا وريحا عبقا.
هنيئا لك أيتها المحتسبة وكأني بك في كل عصر وأنت تتوجهين لدار الذكر ومعك ثلة البنيات الحافظات الصالحات الزكيات.
يا أم ميمونة: لا نعزيك على هذه الخاتمة ولا نعزي أهلك فيك بل والله نهنئك على هذا الرحيل المشهود والبقاء الدائم في الرضوان بإذن الله.
ميمونة: لقد وعظت الناس حية وميتة سمعنا عن برك ومعروفك فشكرا لك والله يجزيك على إحسانك وبرك. إن تلك الوصية التي كتبتِها قبل موتك أيقظت قلوبا غافلة ونفوسا ساهية. فرحمك الله ومن معك من أخياتك وجمعكم جميعا أحياء وأمواتا في جنة الخلد في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
- أستاذ الشريعة بالمعهد العلمي في محافظة شقراء