Al Jazirah NewsPaper Saturday  27/06/2009 G Issue 13421
السبت 04 رجب 1430   العدد  13421

أدبيَّات الشُّخْتُوريَن 2-3
كتبه لكم: أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري - عفا الله عنه -

 

وعَدتُ باستراحةٍ مع لامية الشاعر الصوفي المرتضى أبومحمد(1) عبدالله بن القاسم المظفر الشَّهْرَزُوري (465-511هـ) رحمه الله تعالى - وهو فقيه شافعي -؛ فإن لاميته الصوفية مليحة نفيسة جداً في كل ما يمكن حمله منها على الغزل الأرضي بطريقة دلالات لغة العرب، ومن ناحية مدلولها الصوفي فقد قال عنها أبوالعباس شمس الدين أحمد بن محمد ابن خلكان (608-681هـ) رحمه الله تعالى: (وإنما أثبتُّ هذه القصيدة بكاملها؛ لأنها قليلة الوجود - وهي مطلوبة -، وحُكي عن بعض المشايخ أنه رأى في النوم قائلاً يقول: ما قيل في الطريق مثل القصيدة الموصلية.. يعني هذه)(2).. قال الشهرزوري:

لمعتْ نارهمْ وقد عَسعَسَ الليلُ

(م) وملَّ الحادي وحار الدليلُ(3)

فتأمَّلتُها وفكريْ منَ البينِ

(م) عليل ولحظ عيني كليل

وفؤادي ذاك الفؤاد المُعنَّى

وغراميْ ذاكَ الغرامُ الدخيل

ثم قابَلْتُها وقلتُ لصحبي

هذه النار نار ليلى فميلوا

فرَمَوا نحوها لِحاظاً صحيحاتٍ

(م م) فعادتْ خواسئاً وهي حُولُ

ثم مالوا إلى الملام وقالوا

خُلَّبٌ ما رأيتَ أم تخييلُ

قال أبوعبدالرحمن: على دلالات لغة العرب في الغزل الأرضي فهذه هواه (ليلى)، ومنازل قومها على مرتفع؛ وذلك دليل المنعة، وقد لمعت نارهم على بُعدٍ؛

وذلك دليل الغِنى وكثرة الضيوف؛ لأن الوَقود كثير.. ومع هذا لم يَرَ صحبُه النار، ورآها هو وحده؛ فهو حادُّ البصر؛ وإنما زعم أن (لَحْظ عينه كليل)؛ لأنه رام رؤيةً أكثرَ وقد عجز صحبه عن رؤيتها؛ فحملوا الأمر على الخُلَّب أو التخييل.. ودليل البُعد مع أن النار لمعت في الليل الداجي: أن صحبه لم يروها، وأن الحادي أصابه الملل؛ لطول ما أطرب الإبل لِتضاعِف السير، وأن الدليل (الخِرِّيت) حار في تلك المجاهل؛ إذن دون المنازل بِعاد ووِهاد، وانخفاض وارتفاع، وتعرُّج واختلاف تشابهٍ في الأرض.. وكل هذا ولَّد على شاعرنا كلَلاً في اللَّحظ، وعلَّة ذهول في الفكر؛ لأن غرامه دخيل تجاوز الحب إلى عشق تخلل القلب كما قال المجماع (لا شكِّ قلبي مُوْدِعِهْ بيتِ نملة).. مع أن حُبَّه (يَخُجُّ)(4) القلب ما يوجع أوْجاعْ!!.. ثم استغفروا ربكم وتوبوا إليه - واستغفروا لإخوانكم الأحياء فإن الله تواب رحيم، وادعوا لهم بالهداية؛ فإن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم(5) -: إن جاء عارفٌ من حُداة التصوف، فجعل ليلى والغرام والبِعاد ونار قومها يتعلق بالرب سبحانه وجل وعلا وتقدَّس، ومثل هذا إن تعذَّر في شعر الحلاج لم يتعذر في مثل شعر رابعة وترجمان الأشواق لابن عربي الحلولي الاتحادي.. ولما عجز القوم عن رؤية النار شمَّر الشهرزوري عن ساعد الجد، وقال:

فتجنبتهمْ وملتُ إليها

والهوى مركبي وشوقي الزميل(6)

ومعي صاحب أتى يقتفي ( م م)

الآثار والحب شَرْطُه التطفيل(7)

وهي تعلو ونحن ندنو إلى أن

حجزتْ دونها طُلُولٌ مُحُولُ

فدنونا من الطُّلول فحالتْ

زفراتٌ من دونها وغليلُ

قلتُ مَنْ بالديار قالوا جريحٌ

وأسيرٌ مُكَبَّلٌ وقتيلُ(8)

ما الذي جئتَ تبتغي قلتُ ضيف

جاء يبغي القِرَى فأين النزولُ

فأشارتْ بالرَّحْب دونك فاعقرها

(م) فما عندنا لضيف رحيلُ(9)

من أتانا ألقى عصا السير عنهُ

قلت مَن لي بها وأين السبيل(10)

قال أبوعبدالرحمن: الحمد لله على السلامة؛ فقد ألقى الشهرزوري عصا السير كما سيأتي إن شاء الله من شعره؛ فوجد قوماً صرعهم حبُّ ليلى، ولم يصلوا إلى نار قومها بعد.

قال أبوعبدالرحمن: شاهدت في شبابي أن الحمار (الذي تنكَّر له الإنسان اليوم بعد أن كان حمَّال أثقاله)(11) إذا مرَّ بمراغة حمار وإن تكن منذ أيام انسدح وتمرَّغ مثله.. (تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد)!!.. ولعل هذا من حبه لبني جنسه؛ فإنه يفعل في الجادة أعظم من ذلك.

قال أبوعبدالرحمن: ولي عودة ترويح وتطريب إلى قصيدة الشهرزوري(12) ما دامت على الغزل الأرضي، وأعود الآن إلى البوصيري متمثِّلاً ببيتٍ تمثَّل به قبلي الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله تعالى، وهو:

وأحسنُ ما في خالد وجهُه

فقس على الشاهد بالغائب(13)

قال الحمزاوي: (وإنما كانت الآيات الظاهرة على يديه لم تناسب قدره الشريف؛ لأنه لو أتت آياته على مناسبةِ قدره لأعيانا فهمُ ذلك؛ لقصور قدرنا عن قدره كما أشار إليه بقوله:

لم يمتحنا بما تعيا العقول به

حرصاً علينا فلم نَرْتَبْ ولم نَهِمِ

أي لم يختبرنا في التكاليف والتفهيم بما تعيا العقول به.. أي تكل بسببه فلا تفهمه حرصاً علينا.. أي لأجل حرصه على هدايتنا؛ فلم نرتب.. أي فلم نشكَّ فيما يُلقي إلينا ولم نهم فيه، أي لم نتحير في ذلك)(14).

قال أبوعبدالرحمن: أسلفت أن الآيات (المعجزات) ليست وَفْق قدر الأنبياء عليهم السلام، وفيها ما هو فوق ذلك من وحي ربنا الكريم، ولا مقارنة بين المخلوق والخالق سبحانه.. ولا يتصور أن تأتي آية فوق قدرِ وحي الله سبحانه، ولا يتصور أن آيات الرسول صلى الله عليه وسلم من غير الوحي ناقصة عن قدره؛ لأنها لإفحام العاصين.. ومنها ما هو تقدير له وإعلاء لشأنه كشق صدره - ولخفاء ذلك فليس هو آية إلا عند المؤمن -، وهذا من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتطهيره من كل عيب في الدين والأخلاق، ولرسل الله عليهم الصلاة والسلام تكريم مماثل كتكليم موسى، وكون إبراهيم عليه الصلاة والسلام خليل الرحمن، وأنه أُمَّة وَحْدَهُ، ولكن تميُّز محمد صلى الله عليه وسلم بكثرة فضائله.. ولا يُتصور مجيئ آياته عليه الصلاة والسلام - في زعم القوم - إلا بدعوى البوصيري أن يحيي اسمه المبارك ميت الرمم!!.. وهذا لن يحصل بعد وفاته عليه الصلاة والسلام؛ لانقطاع الوحي، ولو حصل في حياته عليه الصلاة والسلام لم يكن أعظم من معجزات موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، ثم لا بد من العودة إلى أن الآيات لا علاقة لها بالقَدْر.. ومن المحال زعم هذا الحمزاوي (أن الآيات لو جاءت وفق قدره كالإحياء باسمه المبارك: لأَعْيَانا فهم ذلك)!!.

قال أبوعبدالرحمن: إذن لِيُعيِيَه ولادة عيسى عليه السلام من غير أب، وتكلُّمه في المهد، وإحياؤه الموتى بإذن الله!!.. ومن السُّخف زعم الحمزاوي: (أن الإعياء لقصورنا عن قدره)؛ فأما القصور ملايين المرات عن قدره فحق ليس فيه خلاف، وأما كون إعياء العقول بسبب مجيئ المعجزات دون قدره عليه الصلاة والسلام فذلك من خبال الشياطين؛ فأقل المسلمين علماً يعلم بيقين أن الآيات من فعل الله، ويعلم بعض العلماء المتشابه من التنزيل؛ فهل حَالَ عن كَمَال قدْره عليه الصلاة والسلام هذا الفهم.

وعبدالله ورسوله صلى الله عليه وسلم مُبلِّغ شرعَ ربه كما هو لا دخل له في تيسير أو تشديد، وإنما المنة لله؛ لأنه سبحانه المتفرِّد بالتشريع كما قال تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ} ( سورة النحل -101)؛ فالتنزيل والتبديل بالنسخ لله وحْده، وقال تعالى: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } (46) (سورة الحاقة -43-46)، وكل ما عند محمد صلى الله عليه وسلم وحي يُوحى من ربه، وهو مبشر ومنذر من وحي ربه.. قال تعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}(سورة الأنعام - 19)، وقال الله سبحانه آمراً له صلى الله عليه وسلم: { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}(سورة المائدة -67)، والرسول مُبلِّغ للتشريع صلى الله عليه وسلم ولا يأتي بشيئ من عنده.. قال تعالى: {مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ} (سورة المائدة - 99)، وقال الله سبحانه مُجرِّداً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم للعبودية بالوعيد: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ}(سورة الإسراء - 73)، بل قال له ربه: {وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (سورة طه -114)، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ}(سورة الأنعام - 93) بل ردَّ الوحي كلَّه إلى مشيئة ربه فقال الله سبحانه وتعالى عنه صلى الله عليه وسلم وعن المشركين: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ }(15) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) } سورة يونس (15-17)، وقال سبحانه وتعالى عنه صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا}(سورة الشورى -52)؛ أَفَيجوز لنا بعد هذه الآيات البينات أن يكون في قلوبنا ذرة محبة للبوصيري وبردته - ودعك من تضليل الناس بها - بعد أن اقترف ما هو أعظم من الشرك بالله وهو الكفر البواح؛ إذْ جعل محمداً صلى الله عليه وسلم مستقلاً بالتشريع؛ فخاطبه بقوله:

لم يمتحنا بما تعيا العقول به

حرصاً علينا فلم نرتب ولم نهم

والله إنَّ عبدَالله ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم لا يملك أن يسقط عنَّا من تكليف ربه، أو إعْفاء خلق الله من شيئ من المتشابه إلا بوحي من ربه يُبيِّن له؛ وإنما هو عليه الصلاة والسلام رؤوف رحيم بأمة الإجابة ينهاهم عن سؤالهم عن أحكام يخشى أن تفترض عليهم، وما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما.. وإن في كلام ربنا سبحانه ما نعجز عن فهمه، ولكننا على يقين بصدقه على مراد منزِّله سبحانه.. وقال الحمزاوي:

(أعيا الورى فهم معناه فليس يُرى

في القرب والبعد منهم غير منفحم

أي أعْجز الخلق فهم معناه فليس يُرى من الخلق المفكرين(15) في إدراك تلك الأحوال القاصدين طلب الإحاطة بها (سواء عند القرب منه أو البعد) غير منقطع عن إدراك ذلك المرام، ومصدود عن بلوغ ذلك المقام)(16).

قال أبوعبدالرحمن: والله إن هذه دعوى عريضة كاذبة آثمة؛ فأزواجه وأصحابه رضي الله عنهم - بل كفار قومه - عليمون بحاله، ثم تميَّز علم الصحابة رضي الله عنهم بعد الوحي؛ فهو عبدالله بشر مربوب، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيد الخلق، وهم يسمعون هديه، ويحضرون مشاهده، ويسألونه، وهم على كمال العلم بفضله وقدره؛ فما هذا الافتراء ؟!.. وقال الحمزاوي: (فإن قلت: ماذا قصد الناظم بحقيقته التي أنكر أو استبعد إدراك النيام إياها، وماذا قصد بالنيام، وما عنى بالحلم والتسلي بها؟.. قلت: أنت خبير أن حمل الحقيقة على الماهية البشرية التي هي الحيوانية والنُّطْقُ المشتركة بين جميع أفرادها غير ملائم للمقام؛ فالمراد بحقيقته(17) التي لا يمكن إدراكها للنائم هو الهوية(18) المختصة به صلى الله عليه وسلم التي هو مبدأ لجميع آثارها الكمالية المختصة به التي لم يمكن لأحد من البشر مشاركته في مجموعها(19)، ولا في شيء من أفرادها على وجه المماثلة وإن أمكن لأحد المشاركة في نوع تلك الفضيلة، والمراد بالنوم الغفلة الناشئة من المتعلقات الدنيوية واللذات الجسمانية التي بسببها يُحْجَبُ(20) الإنسان عن إدراك حقائق الأشياء، ويمتنع عليه التحلِّي بحِلية الأولياء والأنبياء.. وما يُرى في المنام هو الصور الخيالية المحاكية للماهيات الحقيقية، فمن حجب عن إدراك حقائق الموجودات ولم يدرك منها شيئاً إلا بآلة الحس من المشاعر الباطنة والظاهرة فهو إنما يرى الصور المثالية المحاكية للماهيات الحقيقية، فهو كالنائم الذي يرى في منامه الأحلام)(21).

قال أبوعبدالرحمن: ماهية محمد البشرية عليه الصلاة والسلام معروفة بالمشاهدة والخبر القطعي والتجربة، ووحي ربه إليه معروف كذلك بما مضى حال تفصُّدِ جبينه من العَرَق عند نزول الوحي عليه بأبي هو وأمي، ومعروفة مما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحوال الوحي، ويُجهل ما لم يرد به بيان شرعي؛ فكيف يكون من علم ما علَّمه ربه ممسكاً عما لا علم به: نائماً غير متحل بحلية الأولياء والأنبياء.. سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا أحد يتحلى بحلية الأولياء والأنبياء عليهم الصلاة والسلام على وجه الكمال؛ فكل كلامه هَذْر ضلالي.. وما علاقتنا بأحوال النائم، إن رؤيا النائم من الفعل الرباعي (أُرِي) بضم الألف المهموزة وكسر الراء المهملة؛ فهو لا يرى إلا ما أراه غيره من إيراء ربه له في الرؤيا، والإيراء الكاذب المتلاعب من الشيطان في الحلم من ابتداعٍ أو اجترار مما تختزنه النفس أو ترويع.. وما كان صورة للماهية فليس خيالاً، بل هو وصف مُطابق وليس تشبيهاً مقارباً.. وإدراك حقائق الموجودات بهذا الإطلاق محجوب عن البشر؛ فكم من محسوس بين أيدينا نعرف عنه أشياء وتغيب عنا منه أشياء، وكم من صيرورة في الشيئ لا نعلم بها إلا بعد حين، وما كان قول الله تقدس وجل وعلا عبثاً عندما قال عن الكفار: { يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (سورة الروم -7)؛ فالغفلة حِلْية الكفار، والعلم بما هو ظاهر دون ما غيَّبه الله هو حلية البشر جميعاً.. والاعتذار مُجدَّد لوالدي معالي الدكتور محمد؛ فهو الذي هيَّج أشجاني الإيمانية عندما اتهمني بالغمز واللمز؛ وإنما أردت الحلولية والاتحادية قبحهم الله، وأردت مَنْ تنقَّص الرَّبَّ سبحانه في الغزل الصوفي، وما بعد هذه المقالة هو مسك الختام، وبيان بعض الضلال مُظهر لبقيته.. وقال الحمزاوي:

فإن لي ذمة منه بتسميتي

محمداً وهو أوفى الخلق بالذمم

أي لأن لي ذمة منه صلى الله عليه وسلم بتسميتي محمداً كتسميته صلى الله عليه وسلم بذلك؛ فاختياري التسمية باسمه دليل على محبتي فيه، فإن أحداً لا يتسمى باسم إلا وهو يحبه أو يحب من يتسمى به؛ وإذا ثبت لي منه ذلك مع عظيم جاهه وعلوِّ مكانته عند ربه فلا أخاف، وكيف أخاف أو أبالي وهو صلى الله عليه وسلم أوفى الخلق بالذمم؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قادر على تخليصه بالشفاعة التي أذن له أن يشفع بها في محبته المؤمنين.. وفي كلامه دليل على الترغيب في التسمية باسمه صلى الله عليه وسلم وقد جاء في ذلك أحاديث، فمنها ما أخبرتنا به الشيخة الأصلية عزيزة المصرية إذناً إن لم يكن سماعاً: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوقف عبدان بين يدي الله عز وجل فيأمر بهما إلى الجنة فيقولان: ربنا بم استأهلنا الجنة ولم نعمل عملاً تجازينا به الجنة؛ فيقول الله عز وجل: عبداي ادخلا الجنة؛ فإني آليت على نفسي أن لا يدخل النار من اسمه أحمد ولا محمد).. وعن نبيط بن شريط (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا أعذبنَّ أحداً تسمَّى باسمك في النار).. رواه أبونعيم، وعنه أبويعلى الحداد، وعنه أبومنصور الديلمي في مسند الفردوس بسنده مرفوعاً وقال: متصل الإسناد)(22).

قال أبوعبدالرحمن: لا يُحصى من اسمه محمد وأحمد وهو من أكفر عباد الله أو أفسقهم، والتسمية بمحمد ليست باختيار البوصيري، بل باختيار والديه.. ولا ريب أن محمداً صلى الله عليه وسلم أوفى الخلق بالذِّمم، ولكنه لا يملك شيئاً يوم القيامة؛ لأن الله مالك يوم الدين إلا أن يأذن له بالشفاعة ويرضى عن المشفوع له.. والحديثان اللذان أوردهما نسأل الله السلامة موضوعان(23).. هذا من جهة الإسناد، ومن جهة المتن فهو تكذيب لخبر الله القطعي أن الجنة محرمة على الكافرين، وأنهم مخلدون في النار، وهم أدخلوا الجنة من كان اسمه محمداً أو أحمدَ ولو كان كافراً من أجل الاسم!.

قال أبوعبدالرحمن: من العجب أن هؤلاء يهتدون إلى قاذورات الموضوعات؛ فمعنى ذلك أن وسائلهم العلمية قادرة على التحصيل؛ ولهذا يُصدُّون عمداً عن الصحيح القطعي الذي لا يحتاج البحثُ عنه إلى عناء، وليس هذا إلا اتباع الهوى والتضليل.

قال أبوعبدالرحمن: ولي كلمة لعلماء المسلمين خاصةً بعض علماء ومفكري مملكتنا الحبيبة؛ فأقول: ما هذه المداهنة الشنيعة، وما هذا القصور الفكري العلمي ؟!.. إن أمة الإجابة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم ورثة الأنبياء، وهم الذين ينشرون السعادة للبشرية.. وتعليم العامة في إذاعة القرآن الكريم وأمثالها يكفي بعضه، وتنبغي المصارحة عن وعي وعلم وفكر ومودَّة وعقل ومباسطة؛ فأنتم إن قصَّرتم مسؤولون عن ضلال من ضل من إخوانكم أهل القبلة، فارفعوا حجاب التقاطع والتنابذ، وبيِّنوا الحق في كل المنابر واصبروا، واهتدوا بهديهم إن علمتم من أنفسكم تقصيراً في حق المصطفى صلى الله عليه وسلم، أو وجدتم عندهم من البرهان ما هو أرجح مما عندكم، أو رأوا منكم تعصُّباً لعالم بعينه - مهما كان علمه وورعه وجهاده؛ فخيار علماء المسلمين يخطئون - ، وإذا بَرِئوا لكم من ضلالِ شركٍ أو بدعة أو فسق فاقبلوا منهم؛ فهم إخوانكم في الدين، وهكذا إن صارحوكم بأن شيئاً ما مكذوب عليهم ما لم يظهر لكم خلاف ذلك؛ فالمسلمون مؤتمنون على دينهم كالصيام؛ وإنما عليهم أن يُصارِحوا أهل نحلتهم بذلك.. وما كان ضلالاً فتجاذبوا الحديث فيه برفق وصدق، فالنقاش لقاح العقول.

والقوم - ما سلموا من الحلول والاتحاد ودعاء غير الله - مُنْجمعون على أنفسهم، لم يُقدِّموا أذى لأحد، وتعبَّد عوامهم لله بما يظنونه صواباً؛ فالله يغفر لهم على نيتهم وقصور وسائل علمهم.. وأما مبغضو صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، المحتفلون بمقتل عمر رضي الله عنه وسخط عليهم، المحتفلون بعيدٍ كل عام لأبي لؤلؤة المجوسي لعنه الله، الخالعون للتقية، المكفِّرون للمسلمين على سنة ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، الناسبون لعلي وحفدته رضي الله عنهم ما هم براء منه - فوالله إن الحسين بن علي ووالديه رضي الله عنهما من خيار أئمة السلف الصالح، وإنهم والله أهل السنة والجماعة، وجعفر الصادق رضي الله عنه من أكابر علماء السلف.. كذبوا عليه كثيراً، وتبرَّأ منهم -: فقد خلعوا نفاق التَّقية، وأخلُّوا بحقِّ المواطنة، واعتدوا بأيديهم.. وشجعان المملكة المجرَّبون من القبائل والمدن والأرياف يهتزُّون غضباً لله تعالى، ويتحرَّون إذن ولي الأمر؛ ليواجهوا الشر بالشر، ويكيلوا الصاع أصواعاً.. ولكن ولاة الأمر حاسمون للشر، عالمون من ممارستهم متى يكون التخلُّق بالسياسة، ومتى تكون الانتفاضة، وكل الشعب على وعي بذلك لا يتحرَّك إلا بإذن ولي أمره.

والحسين بن علي رضي الله عنهما قُتل مظلوماً لعن الله قاتله، ولعن من رضي بقتله، وأهل السنة والجماعة تدمي قلوبُهم من هذه الكارثة، ولا قدرة لهم في إنقاذه؛ لأن الحسين رضي الله عنه وغيره من خيار الأمة يودون لو توجد لديهم قوة مكافئة؛ ليتولى الأمر من هو أفضل من يزيد؛ فلما حصل الأمر غلبةً من مسلم عنده تقصير كثير، ولم يحمل الأمة على كفر، ولم يُبدِّل في القضاء والفتوى: امتثلوا شرع ربهم، وقبلوا إمامة المفضول؛ حقناً للدماء، ودفعاً للمفسدة الأكبر.. وأما الحسين رضي الله عنهما فقد منَّاه الخاذلون لأبيه رضي الله عنهما بقوة مكافئة؛ فأدَّاه اجتهاده رضي الله عنه إلى القيام بالتغيير، ونَصَحَه إخوانُه من أهل السنة والجماعة بأنه لا وجود لقوة مكافئة، وإنما هو تغرير من قوم سُلب ملكهم، وحنُّوا إلى ديانتهم الكافرة، ووراءهم السبئية اليهودية التي هي حقيقة كالشمس وهم يعدونها أسطورة.. وهذا ما حصل؛ فخرج فلم يجد الجمع الذي وعده بقوة مكافئة تنصره، فظل يُقاتل قتال الأبطال مع قلة جداً لحماية محارمه، وقام النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنهما القيام المشكور رضي الله عنهما وأرضاهما، ولعن الله كلَّ ذي نِحْلَة عدوَّة للملَّة؛ فالذين أخرجوه هم الذين خذلوه وقتلوه؛ وإنما كلامي لبعض علمائنا ومفكرينا عن هذا الجبن في ترك الجهاد العلمي الفكري قلماً ونطقاً، بل إنني أشِمُّ روح المداهنة؛ فهل أصابنا الوهن وحب الحياة؟!.. والعوام من الشجعان يتمنون بطن الأرض على ظهرها في سبيل الله.. إن مبغضي الصحابة رضي الله عنهم مبدِّلي دينَ ربِّهم قبَّحهم الله إذْ اعتدوا، وخلعوا نفاق التقية: يجب البراءة منهم، ودمغهم بالبراهين؛ فلا حجة لكذوب، ولا لذي خرافة، ولا لصارف شرع الله عن دلالة لغة العرب.. وكيف يكون مسلماً من سفك الدماء في حرم الله، وروَّع المسلمين، وسوَّق الخمور والمخدرات إلى بلاد الإسلام حقيقة؟!.. إن سلفهم كثير منذ الأصيفر المنتفقي، والقرمطي الذي دفن ثلاثين ألفاً من المسلمين العجائز في زمزم، وشهر سيفه على ظهر الكعبة، وقال: (أنا بالله، وبالله أنا.. يخلق الخلق وأفنيهم أنا!!).. ونبش البقيع، وإهانة الشهداء، ومن رضي الله عنهم ورضوا عنه بنص محكم لا نسخ فيه: عادتهم في عبادة المشاهد بعد نبشها، أو يجر حاجة لأحد من أهل السنة والجماعة؛ ليقطعها مزحاً: لغليان كفر نعوذ بالله منه؛ لأن ذلك أكثر ما يقدر عليه من الإيذاء!!.. وقد قطع أحدهم مسبحتي مازحاً، والله المستعان.

* * *

(1) قال أبوعبدالرحمن: إذا اشتهرت الكُنية فرفعها دائماً على الحكاية أجود؛ لأن الخبر بها أو عنها أكثر.

(2) وفيات الأعيان 3-51 دار صادر بتحقيق الأستاذ الدكتور إحسان عباس رحمه الله تعالى.

(3) في أوائل عهد الملك فيصل رحمه الله ألقى أحد مشايخي قصيدة جميلة، ولكنه داعب الشهرزوري، فأخذ بعض أبياته ممازحاً له؛ فلما نشرتُ عن ذلك في إحدى الجرائد اختفى المستعار من ديوان شيخي الذي صدر فيما بعد.

(4) قال أبوعبدالرحمن: الخجُّ عند العامة وَخَزاتٌ لا تقتل، ولا تؤلم كثيراً، بل تكون مرفِّهة.. وكل معاني (خجَّ) عند العامة صحيحة في مجاز لغة العرب من خُجُوج الريح، وانظر لسان العرب 2-71-72 دار عالم الكتب بالرياض عام 1424هـ، وهذه الطبعة تصوير للطبعة الأولى القديمة.

(5) قال أبوعبدالرحمن: يشاء الله الهداية بإذنه كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ }(سورة يونس -100)، وإذن الله مضمون بالانطراح بين يدي الله فراراً واستعاذة ودعاء أوجبه الله، وتوعَّد من تركه.

(6) قال أبوعبدالرحمن: الزميل السرعة على التشبيه بمن لا تكاد تصل رِجْلُه إلى الأرض.. قال الزَّبيدي في تاج العروس 14-312 دار الفكر: (زَمَل عدا وأسرع معتمداً في أحد شِقَّيه، رافعاً جنبه الآخر وكأنه يعتمد على رِجْل واحدة، وليس له بذلك تمكُّنُ المعتمدِ على رِجْليه جميعاً).

(7) قال أبوعبدالرحمن: الصاحب المتطفِّل هنا هو المُريد (مثل التلميذ) في لغة القوم.

(8) قال أبوعبدالرحمن: علامات الترقيم خاضعة للاجتهاد، وهكذا علم الرسم ما تحقَّق الوضوح، والاختصار، وزوال اللبس؛ لهذا أرى كتابةَ (من) التي هي حرف جرٍ بذيلٍ بعد النون، وبدون ذيل هكذا (مَنْ) إذا كانت موصولة.

(9) قال أبوعبدالرحمن: من أجل الوزن تنطق (ها) حرفاً واحداً مفتوحاً (هَ).

(10) قال أبوعبدالرحمن: من أجل الوزن تكون هاء (عنه) حرفين بإشباعها مدّاً هكذا (عنهو).

(11) قال أبوعبدالرحمن: كان صاحب الحمار سابقاً يدهن (دَبَرَتَهُ) بيده مباشرة، ويحزمها ولو بقطعة من عمامته أو ثوبه!!.. والأمر ما ترى اليوم: طردوها للذئاب والأرض المجدبة، وما سَلِم منها توحَّش؛ فما أظلم الإنسان؟!.

(12) قال أبوعبدالرحمن: أطال في ترجمته عماد الدين الأصبهاني رحمه الله تعالى في خريدة القصر، وجريدة العصر 2-308-321، ولم يذكر لاميته، وأحسن الانتقاء ابن خلكان رحمه الله تعالى في وفيات الأعيان 3-334-335، وهو مع ذلك عالم فاضل ومحدِّث جليل.

(13) الفصل 1-228 دار إحياء التراث العربي بتحقيق الدكتور يوسف البقاعي، وهو قياس دنيوي، وأما في الشرع فلا قياس للبشر فيه، وما جاء في الشرع من قياس فهو نصٌّ شرعي لا قياس بشري، وأما البناء على المقاصد فهو استنباط من نص أو نصوص وليس قياساً، والقياس في الدنيويات وسيلة تجريب.. وهذا البيتُ من الشعر الموجَّه في علم البديع البلاغي، ولكنه لا يُعلم إلا بالسياق؛ والقياس في الدنيويات مجرب؛ فإن كان على الظاهر فالغائب جميل، وأبومحمد رحمه الله تعالى لا يريد هذا المعنى؛ لأن البيت في سياق الذم؛ فالغائب غير جميل.

(14) المصدر السابق 3-417 .

(15) قال أبوعبدالرحمن: في الأصل (المنكرين) بالنون، ولا يناسب السياق؛ فلعله تطبيع أو خطأ في الأصل.

(16) المصدر السابق 3-418 .

(17) قال أبوعبدالرحمن: يعني الحلم والنوم.

(18) قال أبوعبدالرحمن: أي التي لا يدركها النائم.

(19) قال أبوعبدالرحمن: ليس الكلام عن المشاركة، بل عن الإدراك.

(20) قال أبوعبدالرحمن: في الأصل المطبوع (يَخِيبُ) بياء مثناة تحتية بعدها خاء معجمة وبعد الخاء ياء مثناة من تحت، بعدها باء ذات نقطة واحدة من تحت، ولا يليق ذلك بالسياق؛ فهو تطبيع.. ولو بقينا على الأصل؛ بحجة أن العاجز خائب؛ لعجزه عن إدراك الحقائق: لما ناسب ذلك السياق؛ لأن الأمر يصير تحصيل حاصل؛ فالمنقطع مرادف الخيبة، وليس معنى جزئياً لها.

(21) المصدر السابق 3-422 .

(22) المصدر السابق 3-536 .

(23) انظر لسان الميزان لابن حجر بتحقيق شيخي أبوغدة 1-404، وتنزيه الشريعة لابن عراق رحمهم الله تعالى 1-173-174 دار الكتب العلمية، وانظر حديثاً ثالثاً موضوعاً في هذا المعنى بلسان الميزان 2-537 برقم 2088 في ترجمة حامد بن حماد العسكري.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد