Al Jazirah NewsPaper Sunday  28/06/2009 G Issue 13422
الأحد 05 رجب 1430   العدد  13422
اما بعد
تخفيف الألم
د. عبدالله المعيلي

 

كثيرة هي آلام الدنيا وأحزانها، وكثيرة هي صنوف العذاب والمنغصات، وقديماً قيل: (ما عليها مستريح) أي أن كل كائن مهما كان، فطلما أنه من بني البشر فهو حتماً تعرّض ويتعرّض إلى موقف أو جملة من المواقف المؤلمة المحزنة.

تلك هي سنَّة الله في خلقه، ألم يتبعه ضيق، وعذاب يعقبه شقاء، وحسرة تضني النفس وتؤرّقها، سلاسل متتالية، منها ما يطويه النسيان، ومنها ما يبقى يقظاً في الذاكرة والوجدان، تلك هي الحياة صنوف من الآلام، لكنها آلام لا تدوم على حال، فديدنها المراوحة والمزاوجة، فكم من ألم وحزن تمخض عن لذة، وكم من ظلمة شقاوة تبعتها أنوار السعادة، يقول جان بول توليه: (قد يمنحنا الألم نوعاً من يقظة الضمير) ويقول ألفرد دي موسيه: (وجدت آلام الحياة أكثر من ملذاتها، فوددت لنفسي الراحة فأحببت الألم).

والآلام متنوّعة متفاوتة، منها ما هو حسي ومنها ما هو معنوي، كما أنها نسبية في مضامينها، فما يعد مؤلماً عند هذا، قد يعد مفرحاً عند ذاك، ويسعى البعض جاهداً لتخفيف آلام يشعر بها من وضع خاطئ، أو موقف ظالم، أو قيمة منتهكة، في حين أن آخرين يعدون هذا المسعى مبعثاً للألم، لأنهم ينظرون إلى هذا المسعى باعتباره يفضي إلى نواتج مؤلمة لهم، فما يعد خطأ عند هذا يعد صواباً عند ذاك، وما يعد ظلماً عند زيد، قد يعد منتهى العدل عند زياد، وتحطيم قيمة يعد مؤلماً عند جماعة، في حين يعد تحطيمها تحرراً من قيود عند آخرين.

ومن مسلمات الأمور أن السعي في تخفيف الآلام الحسية تكاد تكون محط إجماع واتفاق، فالكل يتألم من تبعات الكوارث، ومسببات الأمراض، وحالات الفقر، وتفشي الجريمة، هذه أمور تؤلم البشرية أياً كانت بيئاتها الجغرافية، وخلفياتها الثقافية، فأي جهد يبذل لتخفيف تلك الآلام يعد جهدا مباركاً، ويحظى بالتقدير والإعجاب والاحترام.

أما الآلام المعنوية فتختلف من بيئة جغرافية إلى أخرى، ومن جماعة إلى أخرى، فشرب الخمر - على سبيل المثال - والمجاهرة به يعد من المسلمات في المجتمعات الغربية عموماً، بل إن من يعزف عن شربه يعد شاذاً في أعرافهم، كما أنه يعد متخلفاً في بعض المجتمعات المستغربة، أما شرب الخمر في المجتمعات المسلمة فيعد مخالفة شرعية يعاقب عليها شاربه.

أشرت إلى شرب الخمر باعتباره من الأمثلة التي يعد تعامل الإسلام معها أروع مثال على التدرج في تخفيف الألم، ففي البداية جاء التوجيه الإلهي بأن لا يقرب إنسان الصلاة وهو في حالة سكر، لعلم الله بتأصّل حب شرب الخمر في النفوس وهي ما زالت حديثة عهد بالإسلام، انظر (الآية 43 سورة النساء)، فلما تمكَّن الإيمان في القلوب والنفوس جاء الأمر باجتناب شرب الخمر انظر (الآية 90 سورة المائدة) فقد اتبع الشارع أسلوب التدرج في تخفيف الألم للتخلّص من شرب الخمر، فمن إمكان شربها بشرط ألا يقترب شاربها من الصلاة وهو في حالة السكر، حتى يعي ما يقول، إلى أن جاء الأمر القاطع بالاجتناب كلية بعدما تأصل الإيمان في الوجدان، وترسخت القناعة في العقول.

هذا النهج في تخفيف الألم يتبعه البعض جاهداً في زعزعة الثوابت، بقصد الإزاحة والتجاوز، لأنه لا يستطيع المجاهرة بمواجهتها، وكذا القيم المجتمعية الأصيلة، ففي البدء يتم التقليل من شأن القيمة، أو تضخيم ما تفضي إليه - حسب اعتقادهم - من تعطيل وتعويق، أو أن في الأمر سعة لمن أراد تجاوز الثابت والقيمة، أو البقاء رهن حدودهما، هكذا يتم التناول والزعزعة بشيء من المرونة، حتى يتم تقبل الوضع، ثم يسار إلى تسويغات أخرى، وهكذا تحصل التحولات والنكسات والنكوص على الأعقاب، وهذا ما يبدو جلياً عند البعض الذين وجدوا في منهج تخفيف الألم طريقاً للشهرة، حتى وإن كان على حساب قيم المجتمع وثوابته واستقراره.



Ab_moa@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد