إن ديوان شعر الدكتور خوجة إنما يمثل الأدب والثقافة السعودية الإسلامية بكل مضامينها، وهو من إنتاج علوم المعارف، ومن مواطن الفكر في عالم الحضارة والأصالة العربية في العصر الحديث ومن التزام الشاعر خوجة بعقيدته الإسلامية؛ لأن تاريخ الحضارة هو سجل لقدرة الإنسان على الإبداع؛ لأن رسالة الإسلام عبارة عن قيم ونظم وتشريع وإنسانيات.
لذلك كان ظهور رسالة الإسلام في البيت العتيق، أعظم حدث في تاريخ العرب عامة، ودخل العرب باب التاريخ الواسع مع الإسلام، وكانت العقيدة الإسلامية باعثة على العمل والمسير قدماً إلى الأمام في طريق نشر الدين السماوي بكل علومه وهي التي يحتاج إليها الإنسان البشري.
وقال تعالى في سورة طه: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}.
وجاء في تفسير هذه الآية كما ورد في كتب الصحابة - رضوان الله عليهم -: (لقد أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين فصيح لا لبس فيه ولا عي، وقال جل وعلا: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا}؛ أي زدني منك علماً).
إن الشريعة الإسلامية ما تركت صغيرة ولا كبيرة إلا أحصتها وأضاءت النور للإنسان للسير في ميدان الحياة بكل وضوح، وملأت الكون البشري نوراً وإشراقاً حاملاً رسالة الإسلام وعلومها الكونية وشرائع هذا الكون الإلهي وأنظمته وتطبيق قواعد حرية الإنسان ومساواته بين المجتمعات.
وقال الله تعالى في سورة الأنعام: {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ}، كما قال تعالى في سورة الرحمن:{الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
وجاء في تفسير هذه الآيات: (بأن الله علم الإنسان البيان، الخير والشر وتيسير النطق على الخلق وتسهيل خروج الحروف من مواضعها من الحلق واللسان والشفتين على اختلاف مخارجها وأنواعها).
لقد جعل الله نور جميع أبصار الإنس والجن، فانظر ماذا أعطى الله عبده من النور في عينيه وقت النظر إلى وجه ربه الكريم عياناً.
وفي حديث منقول عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - قال: (إن كتاب الله نور لا ينطفئ مصابيحه، فهو معدن الإيمان وينابيع العلم وبحوره، ورياض العدل وغدرانه.. جعله الله رياً لعطش العلماء وربيعاً لقلوب الفقهاء، ومحاجاً لطرق الصلحاء).
لذلك نشر صحابة رسول الله - رضوان الله عليهم - رفد الإسلام وخيراته في العالم وتحدثوا عن قيمة الثروة السمائية في قوله تعالى في سورة آل عمران: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.
إن الشعر العربي السعودي، سواء ما كان منه النجدي أو الحجازي، فإنه يواكب مراحل تأسيس الدولة السعودية على يد المؤسس الباني الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه -، فهو على قدر كبير من التأثير القوي الصادق عميق الإحساس لجمال طبيعة هذا الكون الذي تقيم عليه الإنسانية.
إن الشعر العربي السعودي يمثل فنون الأدب والثقافة العربية الأصيلة وفنونها الملازمة للإنسان وعواطفه وهي من أوليات الشاعر؛ لأنها مرآته الصادقة.
لقد بلغ الدكتور خوجة قمة الشعر السعودي بكل ألوانه، كما بلغ قمة الأدب والثقافة مع علم اللغة العربية مع قمة الحس الوطني، وهو من عشاق الوطن الحبيب؛ لأنه يمتلك مستلزمات أدوات نمط الشعر العربي المتأصل وأسلوب الفن والنغم والموسيقا الشعرية.
إن الشريعة الإسلامية وضعت للثقافة العربية ولعلمائها قواعد خلقية وأسساً لأعمال أدبية رفيعة تحدد علاقة الإنسان مع الإنسان الآخر، وهذا ما ساعد على قيام الحضارة العربية الإسلامية وانتشارها في أرجاء المعمورة.
لقد كانت لغة قبائل قريش في مكة المكرمة قبل نزول الإسلام وبعد نشره، أصفى لغات العرب وأزهاها، إنها لغة جميلة، وعظمة جمالها تطلب المزيد، وهنا يجب ألا ننسى أن الشاعر الدكتور خوجة هو من أبناء مكة المكرمة بدأ دراسته العلمية في مدارسها للمراحل الأولى، وكانت اللغة العربية في البيت العتيق من أجمل اللغات العالمية، وكانت تضيف إلى جمالها من جمال كل لغة، وتطبع كل شيء بطابع عبقريتها.
ومن فضل الله تعالى أن كانت الجزيرة العربية مهد الإسلام وكان نزولها أولاً على رسول الإسلام - صلى الله عليه وسلم - في البيت العتيق، وهو أول بيت أقيم للناس في مكة المكرمة التي أضحت مهد الرسالات السماوية، وكانت لغة القرآن العظيم باللغة العربية وهي اللغة التي تتحدث بها قبائل قريش، في قوله تعالى في سورة الشورى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ}.
ويقول الإمام عبدالرحمن بن محمد ابن خلدون في مقدمة مؤلفاته: (إن لسان العرب وكلامهم على فنين من الشعر المنظوم وهو الكلام الموزون، ومعناه الذي تكون أوزانه كلها على رؤى واحد وهو القافية وفي النثر وهو الكلام غير الموزون، وكل واحد من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام).
وأضاف: (إن فن الشعر من بين الكلام، كان شريفاً عند الغرب؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم، وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم، وإن لعمل الشعر وأحكام صناعته شروطاً أولها: الحفظ، ويتميز المحفوظ من الشعر الحر النقي الكثير الأساليب).
وحدد ابن خلدون علوم اللسان العربي بأركانها الأربعة، وهي: اللغة والنحو والبيان والأدب، وهي منقولة عن الصحابة والتابعين العرب، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة، والأهم منها هو النحو؛ إذ به تبين أصول المقاصد بالدلالة؛ فيعرف الفاعل من المفعول، والمبتدأ من الخبر.
وقال: وعلم الأدب هو فن لحفظ أشعار العرب وأخبارهم والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث النبوي منقولاً بلغته العربية وهما أصلا الدين والملة ووضع مقايسة واستنباط قوافيه وصار علماً مكتوباً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وافياً، وإن اللغة هي ملكة صناعية، وهذا الفن من فنون كلام العرب وهو المسمى بالشعر عندهم؛ ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم وشاهد صوابهم وخطئهم، وأصلاً يرجعون إليه في الكثير من علومهم وحكمهم، وكانت ملكته مستحكمة فيهم شأن الملكات اللسانية كلها إنما تكتسب بالصناعة والارتباط، وأن لعمل الشعر وإحكام صناعته شروطاً أولها الحفظ من جنسه أي من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة ينسج على منوالها، ويتخير المحفوظ من الشعر الحر النقي الكثير الأساليب ومن بواعثه العشق والانتشاء (من مقدمة كتاب ابن خلدون في صناعة الشعر).
ويقول الدكتور عمر فروخ عالم الأدب العربي في لبنان: (إن اللغة وسيلة للتعبير عن العواطف والمقاصد والأفكار، ويكون التعبير بالحركات الصادرة عن الأطفال، وبالإرشادات المقترنة بالرؤية والإرادة، كما يكون التعبير أيضاً بالأصوات، والإشارة قد تؤدي المعنى المقصود، أحياناً، أحسن مما تؤديه الأصوات بالألفاظ، وإن كان الصوت هو آلة اللفظ.. ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً ولا منثوراً إلا بظهور الصوت).
وقال: (إن اللغة عامل مهم في حياة الأمم، وهي أداة للتعبير عن النفس، وواسطة للتفاهم بين الناس جامع قوي يشد بعض أفراد الأمة إلى بعض ويربط ماضيهم بحاضرهم، واكتسبت اللغة العربية اسمها من الأعراب أو العروبة أو العروبية؛ أي الفصاحة والوضوح والبيان، من أجل ذلك سمَّى العرب أنفسهم عرباً وسموا سائر الأمم عجماً (أي لا يفهم عنهم ما يقولون)؛ لذلك اللغة العربية أقدم اللغات الحية، فليس ثمة في العالم لغة محكية أقدم منها.
وأضاف الدكتور فروخ يقول في كتابه (تاريخ الأدب العربي): إن نزول القرآن كان بلغة العرب التي كانوا ينظمون فيها شعرهم ويلقون فيها خطبهم ويتخاطبون بها فيما بينهم.
وجاء في قوله تعالى بسورة إبراهيم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. كما قال تعالى في سورة النحل: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}. وقال تعالى في سورة الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ}، {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}، {بِلِسَانٍ عَرَبِي مُّبِينٍ}، {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ}.
إن أدب اللغة العربية مآثر عن شعرائها الكبار الفطاحل الذين يصدر عنهم من بدائع القول المشتمل على تصور الأخيلة الدقيقة، وتصوير المعاني الرقيقة في أشعارهم النقية، وهذا ما سنجده في ديوان الشاعر العربي الأصيل الدكتور عبدالعزيز محيي الدين خوجة؛ لأننا بحاجة إلى التفقه في شريعتنا الإسلامية من خلال معاني الشعر والأدب العربي الواسع، ولنعلم المزايا التي شملتها لغتنا الأصيلة؛ لأنها محققة للعدالة والحرية والمساواة والمحبة، وعندها نحافظ على هويتنا العربية الإسلامية ونلتزم بإرادة الله تعالى وبأقواله وأعمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
وإلى حلقة أخرى لعرض نماذج لشعر الدكتور خوجة في (رحلة البدء والمنتهى)، وأشهد بأن شاعرنا العربي المتألق طلع على الدنيا شاعراً أصيلاً منذ بواكير شعره التي كانت متينة السبك رائعة المعاني في وصف الكون بلغة عربية متجددة، وصادقة في مضمونها لروعتها وثقافتها، وهي من إنتاج غزير يصدر من مواهب تشمل من سمات التعبير والبيان والأسلوب والإحساس الناضج في علوم الشعر بالعصر الحديث؛ لأن الشعر وحده يعيد إلى الأرض طهارتها الأولى.. كما قال جورج جرداق.
مطيع النونو