توالت الزيارات من أعلى المستويات من القيادة الأمريكية بعد اتهام المملكة والعالم العربي والإسلامي بالإرهاب بعد ما شهدته الولايات المتحدة من اعتداءات مؤسفة في الشهر التاسع من ألفين واحد ميلادية، وشاب العلاقات ما شابها، وشنت وسائل الإعلام والمؤسسات الغربية حملة مسعورة على العالم العربي والإسلامي وعلى وجه الخصوص الدول المعتدلة ومنها المملكة، فتواصلت الزيارات من المسؤولين السعوديين على أعلى القيادات لتوضيح بأن الإرهاب ليس له زمان أو مكان، وأن هذه الدول المتهمة بالتحريض على الإرهاب هي نفسها عانت من الإرهاب كما عانت دول أخرى من العنف، كما حدث في بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وكان العنف نابعاً من بني جلدتهم وليس قادماً من خارج أوطانهم كما في بريطانيا التي عانت لسنوات من هجمات حزب الشنفين المطالبين باستقلال أيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، وفي الولايات المتحدة وقع تفجير في مبنى التجارة العالمية من مواطن أمريكي، وفرنسا تحدث بين الحين والآخر أعمال تخريب في بعض الأحياء في العاصمة الفرنسية باريس، وفي ألمانيا يشن ما يوصفون بالنازيين الجدد أعمالاً إرهابية وتدميرية للممتلكات في نواح متفرقة من المدن الألمانية. لذلك الزيارات التي تمت من كافة الدول الإسلامية وعلى رأسها المملكة لتبيان أن المارقين عن الفطرة السليمة ليس لهم وطن أو هوية، فوصم المملكة بالتحريض على الإرهاب عار من الصحة، فكيف تحرض على الإرهاب وهي من اكتوى بنار الإرهاب قبل الأحداث المؤسفة في 11 - سبتمبر وبعده وبشكل ضار، ولكن ما تسير عليه المنهجية والدبلوماسية السعودية من عدم تأجيج الأمور واتباع العقلانية وإيضاح الحقائق، وهذه ليست المرة الأولى التي تحتوي فيها المملكة مثل هذه المواقف الملتهبة لاسيما أنها مصدر طمأنينة واستقرار سياسي واقتصادي ليس للمنطقة العربية والإسلامية فحسب بل للعالم أجمع حيث امدادات النفط الغزيرة تصدر من المملكة، فأي اضطراب وعدم حكمة في معالجة الأمور فإن له عواقب وخيمة على رخاء واستقرار العالم بأسره، لذلك نجحت المملكة -بحمد الله- في إطفاء السعير المحموم الموجه لهيبه للعالم الإسلامي والعربي. والمملكة نجحت في احتواء الحرب الطاحنة في البلد العربي الشقيق لبنان بعد أن استمرت الحرب الأهلية أكثر من خمسة عشر عاماً اكتوى بنارها جيل بأكمله، وهذه الحرب الضروس أتت على مناحي الحياة من مطارات ومدارس وبنايات وساد الذعر كل أرجاء لبنان الحبيب بل إن بعضهم ولد وترعرع وهو لا يسمع إلا دوي المدافع والانفجارات ولا ترتسم في صورته إلا مخيلة المسلحين والمدججين بالسلاح. والسبب أنه طغى العنف على الحوار، والسلاح على التفاهم، وصار الاقتتال بين الإخوة هو سيد الموقف، فنجم عنه مآس وكوارث كل يوم وكل ساعة، وكلما لاحت بارقة إصلاح يبددها متهورون وخارجون عن النظام، وقوى الشر الداخلية والخارجية أذكت نار الحرب، فما كان من الدول العربية وفي مقدمتهم المملكة إلا السعي الدؤوب والمستمر في إيقاف الحرب المدمرة ومن دون تأخير والسعي الحثيث في احتواء وجهات النظر المتباينة والمتصارعة مما أثمر عنه اجتماع الإخوة اللبنانيين في 1988م في الطائف بالمملكة العربية السعودية وذلك بانعقاد المجلس النيابي الذي طرح كل المشكلات وعرضها بروح إيجابية من دون انفعالات أو تشنجات، واستمرت مداولات المجلس إلى أن خرجوا باتفاق كامل على كل الموضوعات وكل الرؤى، وانبثق عنه اتفاق سمي باتفاق الطائف الذي أوقف حرباً ضارية الكاسب الأول الوطن وأبناؤه وعاد لبنان شامخاً كما كان له دور بارز في المنظومة العربية والدولية، ورسم اللبنانيون نموذجاً مميزاً في توحدهم من الجنوب إلى الشمال ومن الغرب إلى الشرق وتقدمت بعد الاتفاق تقدماً مذهلاً اقتصادياً وتعليمياً وسياحياً، وأصروا إصراراً بأن لا يعود لبنان للتطاحن والاقتتال بما يسمى بالحرب الأهلية التي لا مكسب منها سوى الدمار والتشرذم والقيام بمعالجة كافة القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية تحت قبة واحدة هي قبة الحوار.
وسياسة الاحتواء تواصلت من المملكة بحنكة وروية حينما عالجت الأزمة الكبرى التي سميت بأزمة الخيلج الثانية التي طالت العالم بأسره ولم يبق قطر من المعمورة لم يتضرر من الأزمة حيث أنها وجدت في منطقة حيوية وإستراتيجية ألا وهي منطقة آبار البترول في الخليج العربي حيث البترول هو عصب الحياة في وقتنا الحاضر وتقوم عليه تقدم ورفاهية كثير من دول العالم، فلم تترك المملكة الأزمة تتفاقم وتصل إلى حقول أخرى في المملكة ودول الخليج لأن احتلال آبار البترول في الكويت لم يكن الهدف الأوحد لتلك الأزمة بل ستتسع الرقعة وتصل إلى دول أخرى في المنطقة، لذلك حنكة المملكة وثاقب البصيرة جعل من الضروري لجم هذه الأزمة وإطفاء نيرانها من أجل رغد وسعادة منطقة الخليج والعالم أجمع حيث النفط شريان الحياة وقلبها النابض.
وتكررت سياسة الاحتواء من واقع أن العالم وحدة واحدة ما يصيب شرقه يصيب غربه، وما يصيب شماله يصيب جنوبه، فحين تصاعدت أسعار النفط ووصلت إلى أسعار مرتفعة أضرت بكثير من المستفيدين من هذه الطاقة وتوقفت مناحي ونشاطات الحياة في كثير من الدول سعت المملكة ومعها كثير من الدول المنتجة والفاعلة في منظمة أوبك بالاجتماع في الرياض في أواخر 2007م بالاتفاق على زيادة الإنتاج لإحداث توازن بين الطلب والعرض وصولاً إلى السعر المناسب للمنتج والمستهلك، فهدأت الأسعار المتصاعدة وعاد الرفاه والنماء لكثير من الدول. وتواصلت جهود المملكة في سياسة الاحتواء حينما تفجرت الأزمة الاقتصادية في العام المنصرم 2008م والتي سميت بالأزمة المالية العالمية وضربت بأطنابها كثيراً من دول العالم وعلى الأخص العالم المتقدم أوروبا وأمريكا واليابان حيث إن المؤسسات المالية والصناعية في تلك الدول تضررت تضرراً كبيراً وكذا الدول النامية مثل البرازيل والصين لم تسلم من تلك الأزمة، فوقفت المملكة إلى جانب الإصلاح المالي التي سميت بمجموعة الدول العشرين التي وضعت إستراتيجية مستقبلية للنظام المالي بوضع جملة من الحوافز المالية إلى جانب تفعيل دور الرقابة المالية وذلك بتعزيز دور المحاسبة المالية وعدم السماح مستقبلاً بأي خروقات مالية تضر باقتصاديات هذه الدول ودول أخرى استثمرت في مؤسسات ومصانع هذه الدول لأن العالم جزء لا يتجزأ ما يضر بدولة يضر بدول أخرى لذلك برز دور المملكة ذات الثقل الاقتصادي والمالي في مساندة هذه الدول بضخ مليارات الريالات والدولارات في المشروعات التنموية في المملكة حيث إن المملكة تستورد جل احتياجاتها من مصانع الدول المتقدمة التي من شأنها تحفيز الاقتصاد العالمي والعودة إلى الوضع الطبيعي إن لم يكن أفضل بحول الله. فلا غرابة أن تبادر المملكة في الإسهام في حل كثير من الأزمات العالمية حرصاً منها على استقرار العالم والسعي مع دول العالم في القضاء على التشرذم وسياسة المحاور والتكتلات التي تهدم ولا تبني وتدمر ولا تعمر، وهذا لم يكن وليد وقته بل هو ديدن حكام وشعب هذه البلاد مع العالم منذ زمن في السراء والضراء. وستستمر -بإذن الله- سياسة الاحتوءا ما استمر الليل والنهار.
- المستشار المالي بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف