Al Jazirah NewsPaper Wednesday  05/08/2009 G Issue 13460
الاربعاء 14 شعبان 1430   العدد  13460
آفة الواسطة.. المعوق الأكبر لتحقيق العدالة الاجتماعية
د. عبدالله بن ثاني

 

آفة الواسطة وما يترتب عليها من محسوبية وعنصرية وانتقائية تعد المعوق الأكبر في بناء مجتمع عربي متماسك الأطراف، يشد بعضه بعضاً كالبنيان المرصوص، وبخاصة أنها فيروس يؤدي إلى أمراض أخرى تتناسل من رحم ذلك المستنقع بطحالبه الخضراء كالرشوة والتزوير وغياب الحقيقة،

والأكثر صعوبة في هذه المتوالية المتناسلة أنها أصبحت ثقافة شعبية وسلوكا اجتماعيا يتمرد على أنظمة الدول والحكومات والمؤسسات الوطنية التي تراقب بحذر انتشار هذا الوباء، تحدث الدكتور علي الوردي العالم العراقي الاجتماعي الأشهر على مستوى الوطني العربي والأكثر جدلاً وصاحب النظريات الأكثر تأثيراً وصدقاً في صميم المجتمع العربي عن آفة الواسطة فقال: (فنحن جميعاً نشجب الوساطة في مقالاتنا وخطاباتنا، ونحن جميعاً نعمل بها في حياتنا العملية فنوسط أو نتوسط حسب ما يقتضيه المقام.إننا نحترم الوسطاء من أولي النفوذ ونمدحهم حين يقومون بالوساطة لنا أو بتأثير رجاء منا، ولكننا لا نكاد نراهم يتوسطون لغيرنا حتى نأخذ بذم الوساطة وندعو إلى مبدأ المساواة وعدم التفريق بين المواطنين. إننا بعبارة أخرى ندعو إلى الوساطة تارة وإلى المساواة تارة أخرى مع العلم أنهما مبدآن متناقضان..). هذه الآفة التي يشرعنها بعض المنتفعة تحت مسوغات غير موضوعية تقف عائقاً أمام تمدن المجتمع وتحضره وتحقيق العدالة والمساواة بين أفراده، وتعطي المتواكلين حقوق المتوكلين في صورة تدل على الهرم المقلوب، والكارثة حينما تعد المحسوبية والعنصرية مقياساً للتفاضل بين الناس في الواقع الاجتماعي فيصدَّر في المجالس من يحتطب في حبالها ويقصى من يتقيد بالنظام والقانون، بينما يتناسى المجتمع أن منظومات القيم والأخلاق هي المعيار الحقيقي للحكم على من يستحق الصدارة..

إن البلد الذي يتصف بالتنوع العرقي والتداخل الحضري والقبلي يحتاج إلى قانون صارم يضبط مساره لتحقيق العدالة الاجتماعية بين أفراده تحت مبدأ تكافؤ الفرص، والواسطة التي نرى آثارها مرض اجتماعي تحول المجتمع إلى مجتمع (اتكالي) يتنافس على ما لا حق له فيه من خلال ثقافة تؤثر سلباً على زيادة معدلات الوطنية في نفوس من وقفت هذه الآفة في طريق طموحهم ومستقبلهم، ليتأكد لنا أن من يسعى إلى استغلال منصبه وموقعه استغلالاً قبلياً أو إقليمياً أو طائفياً في هذا الحراك الاجتماعي المختلف المشارب فقد أفلس إفلاساً إنسانياً ووطنياً، والأدهى من ذلك الازدواج الذي تحدث عنه الدكتور علي الوردي فقال: (إن هؤلاء لم يخرجوا في حديثهم (شتم من لا يفرق بين جماعته وغيرهم) هذا عن القيم المحلية التي نشأوا عليها في بيئتهم القديمة، فهم لا يزالون يؤمنون بالعصبية والنخوة وحق الجيرة والزاد والملح وما أشبه، أما مبدأ المساواة بين المواطنين فهو أمر جديد عليهم وهم ينادون به عندما تكون لهم حاجة به، فإذا كانت لهم معاملة في إحدى دوائر الحكومة مثلاً ثم وجدوا غيرهم قد تقدم عليهم في إنجاز معاملته عن طريق وسيط من ذوي النفوذ رفعوا إذ ذاك عقيرتهم يشجبون هذا الظلم الواقع عليهم وينادون بالويل والثبور على الظالمين).

***

لماذا نسعى إلى الواسطة بأشكالها المشروعة وغير المشروعة ولو كانت على مستوى السؤال عن رقم معاملة في أرشيف ما؟ ومتى نتحرر من قيودها؟ وحتّام نرى آثارها المدمرة ومعوقاتها في طريق التنمية ونشرعنها وندافع عنها؟ ولماذا يفرح الموظف بكثرة المتوسطين وأحياناً يتعمد التعطيل من أجل الحصول على فرص عند الآخرين وهو يعلم أنه مخلٌ بواجباته الوطنية والإنسانية؟

أسئلة كثيرة تعصف بالذهن وتصطدم بواقع يجب أن تشيع ثقافة مدمرة قد تحقق مجداً شخصياً لفرد ما على حساب خراب المجموعة بلا معيار حقيقي للقيمة والفضيلة وبناء شخصية تجود بما لا تملك وتسرق حقوق الآخرين ليتولى حاجات الناس من لا تتوافر فيه شروط المسؤولية مما يؤدي إلى تخريب نظامهم الذي يضبط مسارهم، قال عبدالله القصيمي: في كتابه (كبرياء التاريخ في مأزق): (لا ينبغي أن نتعجب إذا رأينا التافهين والأغبياء والفاسدين والساقطين يصيبون من مزايا الحياة والانتصار فيها أكثر مما يصيب الآخرون والواقفون على الطرف الآخر بمزاياهم المضادة، بل إذا رأينا أولئك هم وحدهم الذين تهبهم الحياة كل حبها ومزاياها، فأولئك التافهون والساقطون والأغبياء قد توافقوا مع الحياة توافقاً مكانياً كما يتوافق الحجر مع الحجر أو مع الأحجار الأخرى، فيأخذ مكانه المناسب منها، وإن لم يتوافقوا معها توافقاً عقلياً أو أخلاقياً..).

***

أيها السادة.. وعلى مستوى المملكة، كم يشعر المواطن السعودي الشريف بالفخر والاعتزاز وهو يستحضر تجربة مؤسسة حكومية من مؤسساتنا العريقة تميزت بتحقيق العدالة حتى أننا لم نسمع من يبحث عن واسطة عند مسؤول فيها لتقديم اسمه على الآخر، ألا وهي مؤسسة صندوق التنمية العقاري الذي حقق عدالة اجتماعية تستحق الإعجاب والتزم الناس بنظامه وطريقته، فلماذا لا تعمم هذه التجربة بعد دراسات ذات مستوى عال على التوظيف والقبول وغير ذلك مما يتنافس عليه الناس والاستفادة من تقنية الاتصال والمعلومات والمواقع الإلكترونية كما هو في بعض الجهات حداً من خطورة هذه الآفة وبخاصة أننا على أبواب التسجيل والقبول..

وختاما إن المسؤولية مسؤولية مجتمع بأكمله للحد من آثار هذه الآفة التي تعد معوقا من معوقات التنمية، وبخاصة في ظل من يفسر بعض النصوص التي تفسر نصوص الشفاعة تفسيرا خاطئا، وقد أجابت اللجنة الدائمة للافتاء عن سؤال: ما حكم الواسطة؟ وهل هي حرام؟ مثلاً إذا أردت أن أتوظف أو أدخل في مدرسة أو نحو ذلك واستخدمت الواسطة فما حكمها؟

فالجواب: الحمد لله

أولاً: (إذا ترتب على توسط من شفع لك في الوظيفة حرمان من هو أولى وأحق بالتعين فيها من جهة الكفاية العلمية التي تتعلق بها، والقدرة على تحمل أعبائها والنهوض بأعمالها مع الدقة في ذلك - فالشفاعة محرمة؛ لأنها ظلم لمن هو أحق بها، وظلم لأولي الأمر بسبب حرمانه من عمل الأكفاء وخدمتهم لهم، ومعونتهم إياهم على النهوض بمرفق من مرافق الحياة، واعتداء على الأمة بحرمانها ممن ينجز أعمالها، ويقوم بشؤونها في هذا الجانب على خير حال، ثم هي مع ذلك تولد الضغائن وظنون السوء، ومفسدة للمجتمع.

أما إذا لم يترتب على الواسطة ضياع حق لأحد أو نقصانه فهي جائزة، بل مرغب فيها شرعاً، ويؤجر عليها الشفيع إن شاء الله، ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء).

ثانياً: المدارس والمعاهد والجامعات مرافق عامة للأمة، يتعلمون فيها ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ولا فضل لأحد من الأمة فيها على أحد منها إلا بمبررات أخرى غير الشفاعة، فإذا علم الشافع أنه يترتب على الشفاعة حرمان من هو أولى من جهة الأهلية أو السن أو الأسبقية في التقدم أو نحو ذلك كانت الواسطة ممنوعة، لما يترتب عليها من الظلم لمن حرم أو اضطر إلى مدرسة أبعد فناله تعب ليستريح غيره، ولما ينشأ عن ذلك من الضغائن وفساد المجتمع.

وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. انتهى.

الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز.. الشيخ عبدالرازق عفيفي..

الشيخ عبدالله بن غديان.. الشيخ عبدالله بن قعود

(فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء) (25-389). والله من وراء القصد.



abnthani@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد