Al Jazirah NewsPaper Friday  07/08/2009 G Issue 13462
الجمعة 16 شعبان 1430   العدد  13462
أبيي.. دعوة لتحكيم العقل..
محمد عبد الكريم عبده

 

يوم الأربعاء 22 يوليو 2009م، أصدرت محكمة التحكيم الدولية بلاهاي، والخاصة بترسيم حدود منطقة أبيي المتنازع عليها بين شمال وجنوب السودان، قرارها الذي قوبل بارتياح بالغ من قبل طرفي النزاع. قضت المحكمة بحاجة الحدود الغربية والشرقية للمنطقة لإعادة ترسيم، بينما أبقت الحدود الشمالية الغنية بالنفط على ما هي عليه والخبراء بقرارهم هذا، تجاوزوا التفويض الممنوح لهم وفق بروتوكولات أبيي

المصاحبة لاتفاقية نيفاشا للسلام بين الشمال والجنوب عام 2005م، بشأن الحدود الشرقية والغربية، كما تجاوزوها جزئياً بشأن الحدود الشمالية ولم يتجاوزها حول الحدود الجنوبية.

التغيير الذي طرأ على الحدود الشرقية والغربية جعل حقول النفط المهمة بالمنطقة تابعة للشمال، كذلك أقرت حقوق الرعي لقبائل المسيرية والحقوق الثانوية الأخرى للقبائل بالمنطقة.

عموماً الحكم الصادر من قبل المحكمة ستكون له آثاره الإيجابية على اتفاقية نيفاشا، حيث ستقوم بفتح الطريق أمام تطبيق كامل للاتفاقية بعد أن قرأ رئيس المحكمة، الفرنسي بيري ماريى ديبوي خلاصة القرار الواقع في 269 صفحة، هرعت مجموعة من السودانيين كانت حاضرة في انتظار القرار نحو خارطة كبيرة ظهرت على شاشة ضخمة توضح الحدود الجديدة للمنطقة.

منطقة أبيي شهدت العام الماضي قتالاً عنيفاً بين الأطراف المتناحرة أسفرت عن نزوح أكثر من 60 ألف شخص إلى المناطق المجاورة تاركة منازلها بعد أن أتت عليها النيران وذهبت بما فيها من ممتلكات، هذا بجانب أعداد كبيرة من القتلى والجرحى الأمر الذي زاد الأمر سوءاً اضطر معها الطرفان إلى اللجوء للتحكيم الدولي.

لم يكن مطلوباً من المحكمة البت في مسألة تبعية أبيي لأي من الشمال أم الجنوب، لأن منطقة أبيي ستخضع لعملية استفتاء يسبق استفتاء الجنوب الذي سيتم في العام 2011م، وما كان مطلوباً منها هو تحديد حدود المنطقة فقط، وهو الأمر الذي أوكل من قبل اللجنة من الخبراء الأجانب، رفض تقريرهم من قبل الحكومة التي اعتبرتها غير منصفة لأنها منحت للمنطقة بعض الأراضي التي لم تكن تابعة لها من قبل، وأدى هذا الخلاف إلى معارك كادت تعصف بكل الاتفاقيات السابقة بين الطرفين وأدت إلى عمليات تدمير ونزوح.

خبراء الاقتصاد يؤكدون أن منطقة أبيي تختزن في جوفها 390 مليون برميل من النفط نصفها في حقل (هجليج) التابع للحكومة الشمالية بنص قرار التحكيم، ولكن وعلى الجانب الآخر، المحكمة لم تحسم أس المشكلة المتمثل في نزاعات المراعي والماء بين قبيلتي المسيرية والدينكا نيجوك، وهي المشكلة الدائمة والمتكررة في المنطقة، فالمسيرية كقبيلة رعوية لن تتنازل عن حقها في الانتقال جنوباً لتأمين الكلأ والماء لقطعانها الأمر الذي سيؤدي مستقبلاً لمشاكل بينها وبين حكومة جنوب السودان في حالة انفصال الجنوب لا قدر الله، خاصة ومنطقة أبيي أو بالأحرى بيئة أبيي مواتية للحرب حتى وإن لم يكن الناس راغبين فيها، وذلك لتوافر السلاح بدرجة مفزعة بين الطرفين، بينما تتدنى الخدمات والبنى التحتية والبطالة والفقر والجهل.

العلاقات بين قبيلة المسيرية والدينكا، شركاء المنطقة، موغلة في القدم، فالمسيرية قبيلة عربية رعوية متنقلة تنتقل بقطعانها صيفاً حتى بحر العرب في الجنوب، وهذا التحرك تسبب كثيراً من المواجهات بينها وبين قبيلة الدينكا المستقرة بالمنطقة، وعلى الرغم من هذه المنازعات المتكررة نجد أن العلاقات بينهما في تجدد مستمر، وقد تطورت كثيراً خاصة بعد أن حدث التداخل والتزاوج بينهما والذي أدى إلى تكوين أجيال جديدة تحمل سمات جديدة، سمات تنبئ بمستقبل أكثر أمناً وأكثر استقراراً.

وبعد، لا يخفى على كل حصيف، أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن هذا الاهتمام الدولي بمسألة أبيي والسودان عامة، وسرعة البت في القضية من قبل المحكمة الدولية وهي التي اعتادت أن تستمر إجراءاتها سنين عديدة حتى ينسى الناس المشكلة ويتناسوا تفاصيلها، هكذا وفي لمح البصر كونت المحكمة ونظر في القضية وأصدر القرار القريب الذي منح لنفسه الحق في تمديد الحدود هنا وهناك.

الاتفاقية منحت حكومة الشمال المنطقة الغنية بالنفط، لكنها في المقابل منحت الجنوب الأراضي الزراعية والمياه، والأغرب أن المجتمع يتصرف وكأن الانفصال بين الشمال والجنوب قد تم بالفعل وتأتي تصريحات اريك مشار، الرجل الثاني في الحركة الشعبية، وكذلك المسؤولين الشماليين بما يؤكد ذلك، حتى قادة الأحزاب السياسية المختلفة في السودان انطلى عليهم ذلك وراحوا يرددون ما يقوله الغرب، وأصبحت طبول الانفاصل تدق وأصبح وقعها مسموعاً لمن ألقى السمع.

إن الاتفاقية حددت بصورة غير مباشرة حدود الدولة المرتقبة، كما أغفلت تماماً مصير التنقل التاريخي الاقتصادي للمسيرية وما سيطرأ عليها في حال قيام هذه الدولة، خاصة وتقارير الصحف الغربية بدأت التركيز على أن (المجلد) هو مقر المسيرية وأصل إقامتهم وليس أبيي، وقد يأتي السيناريو الأسوأ عندما يحل موعد الاستفتاء وهل (دينكا نيجوك) وحدها هي المعنية بالاستفتاء ومن سيضمن عدم تدفق أعداد أخرى من الدينكا إلى أبيي خاصة ولا أحد يمنعهم من ذلك. كلمة إلى عقلاء السودان شماله وجنوبه، ألا يكونوا مطية سهلة لتجار الحروب ودعاة الانفصال، فالانفصال سيأتي إن قدر له ذلك بمشاكل لا قبل للمنطقة بها وأبناء الجنوب عرفوا إخوانهم في الشمال وعايشوهم وتملكوا الأملاك والعقارات واعتلوا المناصب المختلفة وانخرطوا معهم حاملين الهم المشترك، ولئن شابت هذه العلاقة بعض الشكوك بعد أن نزغ الخلاف نزغته، فها قد انتهت تلك الحقبة بمساوئها إلى غير رجعة فلنجعل ذلك وراء ظهورنا ونتابع مسيرة البناء.

إن التعويل على الشريكين الحاكمين في حل القضية غير كاف، وينبغي أن يكون أمر بناء التعايش السلمي في أبيي مسؤولية كل القوى السودانية ونخبها وناشطي المجتمع المدني، وألا يكون اهتماماً لحظياً، بل فرصة لبناء سلام راسخ مستلهم من تاريخ المنطقة في التعايش السلمي والتمازج الثقافي والاجتماعي، فأهل البلاد هم الأدرى بشعابها.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد