Al Jazirah NewsPaper Wednesday  12/08/2009 G Issue 13467
الاربعاء 21 شعبان 1430   العدد  13467
رحمة الله عليك يا والدي (أحمد الشهري)
د. جرمان أحمد الشهري

 

(أنا بخير ولله الحمد، لكن متى تجي يا ولدي)، كانت هذه الكلمات الموجزة هي آخر عهدي بوالدي قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة منتقلاً إلى الرفيق الأعلى -رحمة الله عليه، كان يرقد على فراش الموت بمستشفى النماص العام، ولم يمهله القدر المحتوم إلا جزءاً من يومين حيث أُدخل المستشفى صباح الخميس وتوفي مساء الجمعة الموافق 2-8-1430هـ، وكان أخي الأصغر يرافقه في غرفة الموت، وعندما أردت الاطمئنان عليه هاتفياً رد عليّ بتلك الكلمات التي ستظل ناقوساً يقرع في رأسي كلما تذكرتها، حيث لم تمض بعد تلك المكالمة إلا أربع ساعات فقط ليخبرني أخي بوقوع الفاجعة، فانفطر قلبي وتحسرت مشاعري وخارت قواي الجسدية والمعنوية لهذا الفراق المرير والمصاب الجلل لفقيدي الغالي، الذي لم يفصلني عن وداعه إلا مسافة الطريق من جدة إلى النماص. الموت حق، وكل نفس ذائقة الموت، ولكن لفقد الوالدين أو أحدهما مرارة لا يعدلها أي مرارة أخرى. لقد كنت أشعر في حياة والدي بأنني طفل مدلل لم أبلغ سن الحلم، وعندما فقدته نظرت إلى وجهي في المرآة، فأدركت أن الطفولة المزعومة قد تجاوزتها منذ أمد بعيد، ووجدت أن حجم مسؤوليتي الجديدة وعظم المهمة القادمة تنوء عن حملها شامخات الجبال، تلك المسؤولية الكبيرة التي كان يتحملها والدي عني بالرغم من مرضه وكبر سنه الذي تجاوز الثمانين عاماً. كم كنت عصامياً وعظيماً ومكافحاً يا فقيدي العزيز، على الرغم من حالك الميسور ووظيفتك المحدودة التي بدأت بجندي في وزارة الداخلية وانتهت في ذات الوزارة بعد خمسة وثلاثين عاماً بالرتبة نفسها. لقد أفنيت حياتك خادماً مخلصاً لوطنك وراعياً أميناً لعائلتك متحملاً في سبيل ذلك حياة الغربة وطبيعة التنقل والترحال من أقصى شمال المملكة إلى أقصى جنوبها، من أجل أن توفر لأسرتك الحياة الكريمة وتهيئ لأبنائك بناء مستقبلهم والاعتماد على أنفسهم، في ظل رعاية الوالدة - حفظها الله - التي تقمصت دورك الأبوي الجاد في تنفيذ المسار التعليمي الذي رسمته معها لأبنائكما مع احتفاظها بوظيفتها الأنثوية التربوية العاطفية التي أغدقتها على أبنائها وبناتها طوال فترة غيابك في خدمتك العسكرية، وذلك في أجواء من الحب المفعم والحياة الهانئة والدعم والمساندة لتحقيق ما خططتما للمستقبل، وكان لك أيها الوالد الحبيب ما أردت بفضل الله العلي القدير، ثم بمتابعة ورعاية الوالدة الغالية التي تحملت المسؤولية ورعتها بحنانها وعطفها، فكانت النتيجة أن وفق الله أبناءك الثلاثة ليقتدوا بك فيسلكوا الطريق المشرف نفسها التي سلكتها لخدمة الدين ثم المليك والوطن. لقد تحقق حلمك النبيل في مستقبل أبنائك الذي رسمته لهم بعرقك وجهدك وإخلاصك، فشاهدت قبل أن يتوفاك الله كاتب هذه السطور عميداً في الحرس الوطني، وابنك الثاني عقيداً في القوات الجوية، والثالث عقيداً في القوات البرية، فلك منا خالص الدعاء بالرحمة والغفران، وجزاك الله عنا خير الجزاء، فلم تذخر عنا غالياً أو نفيساً إلا وسخرته من أجلنا، فنذرت نفسك واتعبتها حتى وضعتنا في المكان الذي حلمت به وتمنيته. أدعو الله العلي القدير أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة، وأن يفتح لك نافذة على الفردوس الأعلى، وأن يوفقنا في البر بك ميتاً بعد تقصيرنا في الدنيا، وأن يحفظ لنا الوالدة الغالية من بعدك، لنستضيء بنورها ونأنس بوجودها ونشم بقايا رائحتك الزكية، في جسمها النحيل، ما تبقى لنا في هذه الحياة، داعياً الله سبحانه وتعالى أن ينزل عليك شآبيب رحمته، ويحشرك مع النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، ويجمعنا بك في جنات النعيم، إنه سميع مجيب، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد