Al Jazirah NewsPaper Saturday  15/08/2009 G Issue 13470
السبت 24 شعبان 1430   العدد  13470
حين تنتابنا حمى السفر
أ.د. فوزية البكر

 

حين نقرر السفر.. تنتابنا ألف حالة وحالة، فها هو أخيراً حلم التحليق بالطائرة المغادرة إلى البقاع الباردة، وها هي ذكريات المقاهي المتناثرة في كسل لذيذ تلطف أجواء ما قبل السفر لتذكرنا بالأصدقاء والأعداء والمراقبين والباحثين وبكل التناقضات التي ننقلها معنا ونعيشها حتى نعود لأراضي الوطن.

ومع اقتراب موعد السفر تبدأ حمي التذكر.. فالفيزا لم تنته لأننا نسينا أن نقدمها قبل أشهر أو إننا قررنا في آخر لحظة أننا نرغب في بقعة معينة.. كما أن خزائن ملابسنا بما تعج به من غال ورخيص لا تبدو كافية أو مناسبة للبقعة التي سنسافر إليها (أقصد نحن النساء تحديدا) وهكذا تبدأ رحلات التعذيب المكوكية لالتقاط هذه البلوزة وهذا الحذاء أو هذا الحجاب الخ وننتهي بهذه الحقائب المنتفخة التي تبدو وكأنها ستنفجر لحظة أن يضعها موظف الخطوط على الميزان.

هل حدث أن رأيتم سعوديا مسافرا بعائلة ولديه فقط حقائب اليد أو حقائب صغيرة؟ نجرجر جميعا هذه الشنط الثقيلة المريعة عبر مطارات العالم وكأن الدنيا قد خلت من كل ملبس.. وماذا يحدث حين نحط رحالنا؟

نبحث عن أول مركز تجاري لنتسوق فيه ؟ وتجدنا صغارا وكبارا وقد تناثرنا في أرجاء المحلات التجارية نتقافز من واحد إلى آخر وأكتافنا تأن من ثقل الأكياس البلاستيكية التي ننقلها من محل إلى آخر ومن مدينة إلى أخري وكأننا لن نراها أبدا أوان مدننا الرئيسية خلت من كل محلات الثياب أو كان السفر لا يعني شيئا من غير قليل (أو كثير ويومي) من الشوبنج!! ما قصتنا مع هذه الملابس وكان العالم انتهي عند قميص أو حذاء..؟!

ثم يأتي المساء الجميل؟ فماذا نفعل؟ نبحث عن أين يتجمع السعوديين لنذهب إليه ونبدأ في تمشيط طرقاته ذهابا وإيابا حتى ينتهي الليل ونحن نتبادل نظرات القلق والتشفي والمحاسبة فيما ينشغل صغارنا بملاحقة بعضهم البعض وبتبادل ألأرقام وربما أشياء أكثر خطورة ووحشية يتم دفع ثمنها شخصيا واجتماعيا بعد العودة إلى أرض الوطن وخاصة من قبل الفتيات.

أما قصة التدافع والصراع وأماكن الجلوس الإستراتيجية على المقاهي والمطاعم فهي قصة ثقافية واجتماعية يجب فعلا تسجيل إحداثها ودراستها لفهم نقاط الالتقاء والصراع. ما العوامل التي تخلق هذا التقاتل للحصول على مقعد استراتيجي في أحد هذه الأماكن السياحية في مناطق محددة من العالم مثل مقهى فوكيت في باريس أو مقعد على شرفة مقهى في مرفا بورت بونس في ماربيا باسبانيا أو في سردينيا في ايطاليا أو في لندن أو القاهرة أو بيروت والتي باتت شهرة بعضها بين السعوديين أكثر من شهرة طاش ما طاش؟؟ أنها جغرافية هذا المقعد في ذلك المقهى أو المطعم والذي من أهم شروطه هو أن يتيح اكبر فرصة لأجهزة الرادار الشخصية التي تم تركيبها اجتماعياً في عقل كل سعودي ليكون شغله الشاغل حين يسافر هو الإجابة على السؤال التالي: ماذا يفعل غيره من السعوديين الموجودين في بقعته وفي محيطه المكاني، حيث شاءت له الأقدار أن يسافر وكيف يلبسون ويأكلون ويتحركون؟

وفي الغالب الأعم تتشابه الطرق التي نقضي بها أوقاتنا كسعوديين في السفر فالصباح ليس طقسا سعوديا في ما يبدو للكثيرين ونحن نفضل الليل حتى لو كان البلد أوروبيا أو استراليا ينام مع تمطي المساء في أحضان الليل وأشك في إننا نتمكن من التعرف على ثقافة البلد أو زيارة متاحفه وآثاره والاطلاع على جرائده أو زيارة أهم المؤسسات فيه كما قد يتوقع من أي زائر بل إننا قد نحط رحالنا في بلد ما ونغادره دون أن نتعرف على أهله أو نسمح لأنفسنا بتجريب طعامه أو زيارة مؤسساته وأجد أن الكثير من السعوديين لا يحبون في الحق زيارة المتاحف والمعالم الأثرية حيث هي طقوس ثقافية يتم تشريبها للصغار في باقي أنحاء العالم كجزء من المناهج الدراسية بزيارة المتاحف الفنية ودراسة اللوحات المشهورة والاستمتاع بدلالاتها الفنية وحضور عروض الفرق الموسيقية الكلاسيكية للتعرف وتذوق الفن الموسيقي الأصيل وكلها مفردات غائبة عن الثقافة المحلية وعن نظم التعليم فكيف نتوقع أن يمارسها أو يقدرها من لم يعرفها..؟ لذا فإن معظم الفعاليات الثقافية والفنية التي تحملها المدن الكبيرة في الغالب في كل أرجاء العالم لا تكون جزء من برنامجنا للسفر بل ولأننا محرومون من أشياء بسيطة يمارسها كل إنسان في العالم مثل حق المشي الحر في الشارع أو الجلوس في مقهى أو حضور عرض مسرحي أو سينمائي لذا يبدو الذهاب للسينما طقس متكرر ومثير واستثنائي للسعوديين والقدرة على الجلوس في مقهى دون إن تكون مليئا بالقلق لحق احدهم في نزعك من مقعدك وسألك عن المحرم أو بطاقة العائلة كل ذلك ترف غير ممارس نستمتع به ولا يفهم الآخرون سر الوله به ومن ثم فمجرد أن نمشي في الشارع كعائلة وأن نجلس في مقهى كعائلة تكفي لنشعر معها بمتعة السفر وتتلاشي فوائد السفر الأخرى كالتعرف على ثقافة المكان وآثاره كل ذلك في خضم رغبتنا في أن نكون طبيعيين لأيام وأن نعيش دون ملاحقة النظام الاجتماعي أو الرقابي.

الحالة السعودية الخاصة أثناء تجمعاتنا خارج الوطن تبدو واضحة أينما حللنا وهي سهلة الملاحظة في أي مكان في العالم. وتتلخص في الطرق التي نتجمع بها مع بعضنا لنمضي سحابة النهار فكيف نفعل ذلك؟ هو نفس المقهي المشهور أو المكان حيث تتجمع السيدات مع بعضهن فوق طاولة تكبر في كل يوم بحجم شهرة المكان في حين يتجمع الأزواج في الجهة المضادة لزوجاتهم حتى لا يراقب الآخرون (محارهم) بشكل مباشر!! والأطفال مع الشغالات في الملاهي المجاورة والشباب ذكورا وإناثا يجوبون الشارع المشهور في المدينة حيث يتجمع السعوديون الشباب ذكورا وإناثا (وحتما هو ملئ بالمقاهي والمطاعم) يمشطونه ذهابا وإيابا أملا في التقاط رقم أو ابتسامة!!

وتأتي ميزانية السفر كأحد المصائب التي نستسلم لها مدركين حجم الضعف الأبوي والعائلي تجاه متطلبات السفر!!. ورغم أننا نبحث قبل السفر في كل الجرائد عن العروض الخاصة ونحاول الحصول على تذاكر بأسعار منافسة إلا أن هذا الحرص يتواري حين نحط في أرض الله الواسعة فالأطفال يرغبون بكذا والمدام كذا وكأس الشاهي في هذا المقهى بكذا وتتوالي الحسابات دون ننتبه ورغم تركيزنا الجدي في أيام السفر الأولي في الحسابات لضبط الميزانية ألا أن ذلك يتواري مع تجمع سحب الصيف ومشترياته وأماكن الترفيه الغالية بقدر لم نحسب له حساب لتتضاعف هذه الميزانية مسرفين في استخدام هذه البطاقات البلاستيكية وكأننا لا نصرف نقودا فعلا وكما إننا أضعف من أن نرد طلب طفل أو مراهقة وهي لحظتهم للترفيه عن أنفسهم مهما يعني ذلك من مصروفات سترهق كاهلنا حين نعود إلى الديار!!

ويختم الصيف أجزاءه المتناثرة لنعد أنفسنا للعودة ونركض في كل اتجاه حتى نشم آخر هواء عليل أو نشتري آخر قطعة يمكن أن تتسع لها الشنط الجديدة التي اشتريناها لصغر حقائبنا الأصلية التي قدمنا بها!! ونعود لأرض الوطن محملين بالإرهاق والتعب لطول الرحلة لكننا ومن جديد نبدأ في الحلم بسفر قريب بعد أن نسدد الديون المتراكمة ونتبادل مع الصديقات حكايات بنات فلانة اللاتي رأيناهن في ذلك المكان دون حجاب!!




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد