Al Jazirah NewsPaper Tuesday  18/08/2009 G Issue 13473
الثلاثاء 27 شعبان 1430   العدد  13473

ومَنْ ذَا الَّذي يا مِصْر لا يَتَغَيَّرُ..؟
د. حسن بن فهد الهويمل

 

قد يتساءل المرء عن مدى صدقية المبدعين القدماء والمحدثين وموضوعيتهم، وبخاصة الشعراء الذين يسجلون تجاربهم ويحددون مواقفهم من الأفراد والجماعات وسائر الأشياء، والشعراء كافة كما وصفهم القرآن الكريم يقولون ما لا يفعلون...

...وهم في كل وادٍ يهيمون، ومن ثم يوغلون في الذم الكاذب، ويسرفون في المدح المداجي، ويبالغون في الوصف المرجف، وتمس هجائياتهم ومدائحهم الجماعات والأقاليم والأفراد، وقد تصبح بعض الأبيات شواهد مشهورة يتناقلها الناس جيلاً بعد جيل، وكأنها في حكم البراهين القاطعة التي لا اجتهاد معها، وإن كانت مفتريات كاذبة، وأقرب مثال على ذلك نقائض الشعراء في العصر الأموي وهجائيات (المتنبي) ل(كافور الأخشيدي) ولأهل مصر، وأين نحن من (بني أنف الناقة) و(المحلق) و(نُمَيْر) في مقولات: (هم الأنف..) و(وبات على النار الندى والمحلق) و(فغض الطرف إنك من نمير).

ولو ذهبنا نستدر الذاكرة لضحكنا قليلاً ولتأففنا كثيراً على ما وعاه ديوان العرب من سقط القول وفاحش الكلام، ولأنه تراث عربي فقد كسب القداسة التي صنعها الوهم حتى لا يجرؤ أحد على المساس به، وكأنه قول محكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وحين اقترف العلامة العقلاني (أحمد أمين) خطيئة النيل من الشعر العربي وكتب دراسته الموسعة عن (جناية الأدب العربي) انبرى له الناقد السليط (زكي مبارك) وكتب دراسة أشد ضراوة تحت عنوان (جناية أحمد أمين)، وإذ وقع الاثنان في الجناية فإن لكل واحد منهما نصيباً من الحق والتألق، غير أن الأنصار والخصوم لا يعنيهم الحق، وإنما يجتهدون من أجل تحقيق الانتصار. وفي معامع المناكفات ضاع الحق، ولم يتحقق الانتصار، وللمتشكك أن يتعقب الكثير من المعارك الأدبية؛ ليقف على أهواء جامحة وتحيزات مجحفة، والقليل القليل من يطرح العصبيات جانباً ويبحث عن الحق بوصفه الضالة المنشودة.

ومصر التي أوحت بهذه الخواطر بوصفها أم الدنيا، والمصريون بوصفهم جماع المتناقضات لكثرتهم واختلاف مستوياتهم ومشاربهم، يُعَدُّون مشروع بحث يتجدد مع الزمن، وكأني أستذكر مقولة: (دخلنا الكوفة بليل...).وهكذا أرض الكنانة وأم الدنيا، مكتبات ومراقص ومساجد وخمارات، شواطئ وحوزات، علماء وجهلة، فقراء وأغنياء، عباقرة وأغبياء، نُسَّاك وفجرة، اخترقوا عوالم (نوبل) و(الفيصل) في السياسة والأدب والعلم، وانتشروا في أرض الله الواسعة أطباء ومهندسين وأساتذة ومفكرين وعلماء وعاملين مبدعين وممثلين وعمالاً أميين، يحصدون الجوائز ويحتلون المراكز، المادح لهم لا يقول إلا بعض ما يستحقون، والذام لهم لا يأتي إلا على بعض ما يقترفون، تخرج من أرضهم غاضباً ثم لا تلبث أن تحن إليها، وتدور الآفاق ولا ترتوي إلا من نهر مصر المتدفق بالحياة والحضارة:

(أبا المسك هل في الكأس فضل أناله

فما زلت أشدو من زمان وتطرب)

ومع أنني لا أصدق نسبة وصف مصر وأهلها المسجوع إلى (عمرو بن العاص) إلا أن بإمكان أي متلاعب بالألفاظ أن يقول عنها وعن أهلها ما يحلو له، ثم لا يبارح الحقيقة. وإذ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن من البيان لسحرا) في قصة الذام والمادح في آن، والذي قال مدافعاً عن نفسه: (والله ما كذبت في الأولى وإني لصادق في الثانية) فإن المادحين والقادحين يمتلكون كل وثائق الإثبات، ومصر كنهرها تلقف ما يأفكون، وصحف المعارضة المحبرة بأيدي المصريين أنفسهم تطاردهم المحاكم لأنها توغل في الذم والاتهام الصريح لكبار المسؤولين، ولأنها تبلغ في الوقيعة ما لم يبلغه مشاهير الهجائين؛ إذ ليس لأحد في مصر أمامها أية حصانة، وكأني بواحدهم يقول: (أنا الغريق فما خوفي من البلل)، وحين استفحل النَّيْل الجارح لجأ (أنور السادات) إلى إنشاء محكمة آداب لإيقاف التدهور الأخلاقي في الإعلام. والراصد لحراكه يراه مأخوذاً بالعواطف الهوجاء؛ فاندفاعاته غير محسوبة، وقد يسيء إلى المصالح القومية ويعرض الدولة إلى إحراجات مع حلفائها وأصدقائها، ولما يزل بين جزر ومَدّ.

جئت إلى مصر قبل أربعين سنة للدراسة وأنا في عنفوان الشباب وميعة الصبا فكانت جنة الدنيا وبهجتها، ولما أزل أحتفظ بأعذب الذكريات، كانت إذ ذاك تمسك ببقية العمالقة في الأدب والفن والفكر وسائر مجالات الحياة، ومصر إذ ذاك تتصدر عالمها العربي في كل القضايا، وتباهي بخطابها الأعنف، وتُدلُّ بما تملكه من أعماق جغرافية وبشرية، وكان مشروعها القومي والوحدوي والاشتراكي يعلو ولا يعلى عليه، وكانت عظمتها يومئذ أنها الكوَّة الوحيدة التي نطل منها على مختلف الحضارات، وكان إعلامها النافذ وحده الذي يغزل الأفكار ويغازل المشاعر، وكانت الثورات عشق الشباب؛ فكنا نصبح على ثورة ونمسي على أخرى، ولا نتحدث في مجالسنا إلا عن زعيم تعشى النياشين الأبصار وهو يسرد مبادئ ثورته ويرغي ويزبد ويهدد ويتوعد ويشعل أجواء الحرب وكأن كل مواطن مدجج بالسلاح ويده على الزناد وخطط المعارك بين يديه، وما كنا ندري أن كلام الليل يمحوه النهار، وأن المسرح السياسي مسرح تهريج وبهلوانية، وظلت مصر جماع أمر الأمة كله حتى اجتاحتها نكسة حزيران وكشفت المُعمّى وتلوثت أجواؤها برياح منتجع (ديفيد).

تلك هي المسافة العميقة بين الأمس واليوم، إذ لما أزل أعرج عليها في كل عام مرة أو مرتين أخرج منها لأحن إليها متولهاً:

(سائق الأظعان يطوي البيد طي

منعماً عرج على كثبان طي)

تشدني إليها مكتباتها الحافلة بكل شيء والمتسعة لكل شيء، ومنتدياتها الحزبية والنقابية ومناسباتها الثقافية المتعددة الاتجاهات والاهتمامات، وأسوارها الأثرية ك(سور الأزبكية) وما يعرض فيه من كتب قديمة، وتستهويني أحياؤها الشعبية ومقاهيها القديمة في حي الحسين وميدان العتبة وباب اللوق، ولك أن تقرأ كتاب (قهاوي الأدب والفن في القاهرة) ل(عبدالمنعم شميس) لترى كم طوى التاريخ من مراتع معرفية مختلفة، ولقد تستهويني تلك الأماكن فأذهب إليها في المساء لأرى الناس على طبيعتهم وبساطتهم وأغبطهم على ضحكاتهم المجلجلة وتنازعهم عند أتفه الأسباب، وأساوم الباعة المتجولين، وأستعذب كذبهم ونجشهم وأيمانهم الكاذبة، وحين أعود في الهزيع الأخير من الليل أجد الصحف والمجلات ليوم غد تملأ الأرصفة فأنتقي من صحف المعارضة (الأحرار) و(الشعب) و(الوفد) و(النبأ)، ومن الرسمية أو القويمة (الأهرام) و(أخبار اليوم) و(الأخبار) و(الجمهورية) وسائر المجلات ك(روز اليوسف) و(أكتوبر)، وأعجب كل العجب من البون الشاسع بين عرض الأحداث ومناقشتها، وأتسلى بتهريج صحف المعارضة وبراعتها في نشر الغسيل والإيقاع في الفتنة، وأمتعض من الفضائحيات والافتراءات والاتهامات والعناوين الصارخة والتجريح غير المستساغ، وأرثي لحال الجزعين الذين يهزهم الهرير قبل النباح والحسيس قبل الفرام، وأتذكر قول الشاعر:

(ولقد أمر على اللئيم يسبني

فمضيت ثمة قلت لا يعنيني)

ولقد استفدت كثيراً وأيقنت أن الصمت ربما يكون أبلغ خطاب، وهذا الداء العضال امتد إلى الناشرين وأصحاب المكتبات المشهورة الذين يلهثون وراء المادة يستكتبون المزايدين والمرتزقة و(بتاع كله) كما يقول المثل المصري، ممن يتناولون الساسة بأبشع الأوصاف والدول بأحط الكلمات والمذاهب بأكذب الاتهامات ويدخلون في الخصوصيات يختلقون الأحداث والمواقف ويقبضون الثمن البخس لكرامتهم ومصداقيتهم. والسائح بين المسارح والشواطئ والآثار والكتب والصحف والقنوات والمواقع كالريشة في مهب الريح، أو كالقارب وسط الأمواج العاتية يحلم بشاطئ السلامة. و(القاهرة) جماع ذلك كله، وسعت كل المتناقضات، ولمَّا تزل تطلب المزيد يأتيها السائحون من كل فج عميق، يستعذبون الفوضى المستحكمة والزحام الخانق والتلوث المخيف، ولو سئلوا عن المغريات لما استطاعوا الإجابة، فمصر يملّها المقيم ويحنّ إليها البعيد، وذلك سرها الغريب، ولقد يكون لماء النيل سره الفرعوني؛ فمن شرب منه شربة عاد إليه ولو بعد حين.ولكن مصر الأمس لم تكن كمصر اليوم؛ لقد تغير كل شيء فيها حتى لم تعد تجد ما كنت تعهده من قبل، لا في الأسواق ولا في المتنزهات ولا في الإعلام ولا في المكتبات. جئت (القناطر) أحسبها كما عهدتها منذ أربعين سنة، وغامرت بدخول المطاعم القديمة، وأعدت زيارة المتاحف والآثار والمنتديات التي كنت أختلف إليها من قبل، وفي كل موقع أقول: (أهذا المكان الذي كان يعهد؟).حتى السياسة يصطرع القطبان الإسلاميان: (تركيا) و(إيران) على انتزاع السيادة العربية منها، وكأن الأمة العربية قطيع من الماشية نام عنه راعيه في أرض مسبعة؛ فكل طامع يود أن يتولى رعيه، وأمام هذا الانكسار عدت أردد مقولة (كثير عزة):

(وقد زعمت أني تغيرت بعدها

ومن ذا الذي يا عز لا يتغير)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد