Al Jazirah NewsPaper Saturday  22/08/2009 G Issue 13477
السبت 01 رمضان 1430   العدد  13477
رمضان.. والحالة العربية المحيرة
د. فوزية البكر

 

بالنسبة للكثيرين من المسلمين في معظم أنحاء العالم يبدأ رمضان في العادة بالفرح الظاهر انتظار لهذا الشهر الكريم، وتبدأ الاستعدادات له حتى قبل أن يهل بالمباركات ووصل القريب وتوزيع الصدقات والمؤن على الفقراء والمحتاجين وعيادة المرضى والصيام والقيام بواجب هذا الشهر كما يجب له أن يكون.. هذا ما يفعله كل مسلم.. لكن ما الذي يحدث في كل تلك المناطق المضطربة من العالم الإسلامي، حيث يعيث المسلمون فساداً في بعضهم البعض دون أن نتمكن نحن المواطنين العاديين من فهم آليات هذا التقاتل والتنازع الذي أودى بحياة آلاف من المسلمين.

من يصدق أن ذلك الطبيب الشاب الذي تخرج من طب الإسكندرية قبل سنوات، والذي كان يقف على المنبر قبل أيام في غزة معلناً قيام دولته الإسلامية التي ستبدأ كما قرر من رفح هو اليوم تحت الثرى ومعه أكثر من سبعة وعشرين شاباً ومئات المصابين وكلهم ذهبوا ضحايا لتصفيات وحسابات داخل حماس وفصائل الجماعات الجهادية السلفية الأخرى بما فيها هذه الجماعة.. وبالطبع فهناك الكثير من هذه الجماعات التي هي ربما هي أكثر تطرفاً من (جند أنصار الله) مثل جماعة (جيش الله)، وجماعة (التكفير)، وجماعة (عرين الأسد للمجاهدين المقاتلين) والتي للأسف تنتشر في غزة بنفس درجة انتشار المحاصرة والفقر والبطالة في هذه المنطقة المنكوبة وهذه الجماعات ويا للمفارقة أرجعتنا بما تفعله اليوم داخل غزة من غزوات داخلية على محلات الفيديو وعلى كل مظاهر الحياة المدنية بما كان يجري في عقر دارنا إبان أوائل التسعينيات.

بالطبع يمكن للمعنيين بالشأن السياسي متابعة وفهم هذه الصراعات بين حماس والجماعات السلفية الأخرى وجماعة فتح والموقف من التهدئة مع إسرائيل أو السيطرة داخل الأراضي المحتلة إضافة إلى ما يحدث في اليمن والعراق ومصر وغيرها وكلها صراعات أربكتنا جميعا كمسلمين وهي يجب أن تدفع لأسئلة أكثر عمقا تطال ليس فقط تلك المسببات السياسية والعسكرية المباشرة التي ولدت هذه الجماعات وصراعاتها التي يدفع المواطن العادي ثمنها مثلما يحدث اليوم مع سكان غزة، بل أيضا محاولة لفهم العوامل العقلية والثقافية ذات العلاقة بالإرث والعقل الجمعي والمفاهيم والمسلمات التي يتم بناء الإنسان العربي في ظلها عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية المختلفة. هذه المسلمات هي التي تجعل هذا الفرد أسيراً لفكر الجماعة وهو بواسطة آليات التنشئة يبقى دائماً عاجزاً عن خلق رؤية ذاتية تساعده على انتهاج خط مستقل يحميه من القتل والدمار في ظل فكر جماعي مدمر كالذي تروج له هذه الجماعات السلفية وغيرها في طول العالم الإسلامي.

أريد أن أشرككم معي في بعض ما أقرأه هذه الأيام حول الطب النفسي العربي والمسلمات التي يقوم عليها العلاج النفسي في كل من الغرب والشرق والاختلافات الجوهرية في البنية العقلية للمريض والتي وجدت أنها قد تساعد (إلى جانب تفسيرات أخرى) على تفسير الآليات التي تقود العقل العربي عموماً في علاقته بالسلطة سواء تمثلت في الأب أو المعلم أو المعالج النفسي أو رجل الدين أو أي نموذج للسلطة نضطر للتعامل معه. الكتاب هو العلاج النفسي في المجتمعات العربية وتطبيقاته وهو من تأليف د. فهد سعود اليحيا ود. قتيبة جلبي ويتم استخراج وتحديث طبعته الثانية من قبل المؤلفين والتي ستصدر قريباً. والكتاب يقوم باستعراض مفاهيم العلاج النفسي التقليدي ومقارنتها بالعلاج العربي وتأثير ذلك في الفرد والعائلة، وقد وجدت أن الكثير من المسلمات والشروحات المنثورة في ثنايا هذا الكتاب القيّم الممتع هي نفسها التي يمكن أن تشرح الحالة العربية عموماً.

يذكر المؤلفان في الفصل الخامس أن العلاج النفسي التقليدي في الغرب يقوم على قاعدة أساسية وهي إرساء الفردية والاستقلالية للمريض كشخص، ولذا فالمعالج يحاول أن يغير من نظرة المريض إليه فبدل أن يراه وكأنه الإنسان الكبير المنقذ ذو السلطة الكبيرة والذي يقوم مقام الأب يحاول المعالج في الغرب أن يجعل المريض يشعر بأنه على قدم المساواة وأن هذه المساواة تحمل في ثناياها المسؤولية.. أي مسؤولية المريض نحو نفسه وعلاجه ومن ثم فالخطة العلاجية يتم اختيارها طبقاً لاختيار المريض وهذه الفرضية مبنية على قيمة اجتماعية متأصلة في المجتمعات الغربية وهي أنه في حين أن للإنسان الحق في أن يكون مختلفاً في المظهر والسلوك طالما أن هذا السلوك لا يضر أحداً ولا يخالف القوانين العامة المرعية، إلا أن هذا الإنسان الحر في اختياراته يتحمل أيضاً تبعات هذه الاختيارات ومن ثم فأي نصيحة أو رأي من قبل المعالج هي قابلة للنقاش والاعتراض وبالتالي يكون المريض مسؤولاً عن اتخاذ القرار بإتباعه أو إهماله وهو من يقرر صلاحية العلاج له، في حين يقوم الطب النفسي العربي على افتراضات مختلفة تعتمد الأسلوب الشرحي التعليمي بناء على القيم التي تربي عليها المريض وحيث تجزم الثقافة الشعبية السائدة بأن العلم يكون عند الكبار، فالحكمة والعلم ينتقلان من الكبير إلى الصغير أي من طبقة السلم الاجتماعي العليا إلى الدرجة الأدنى وهكذا فإذا رأى الصغير رأياً مخالفاً للكبير لن يستطيع مناقشته، فالكبير هو صاحب القرار والحكمة ومن ثم فإن العلم وحل المشكلات كلها تأتي عن طريق إلقاء النصح والمواعظ وأن على الشخص أن يستمع لإرشادات من هو أعلى منه، وكذا القياس في العلاج النفسي العربي فالمعالج يعطي الحلول ويشرح للمريض لا أن يحاول المريض أن يستكشف هو بنفسه عن طريق أساليب علاجية معقدة فهم الدوافع النفسية والعقلية الكامنة وراء السلوك.

من ناحية أخرى وكما يذكر المؤلفان فالإنسان العربي إذا وقع في مشكلة ما فإنه غالباً ما يغفل عن إيجاد السبب في المشكلة نفسها ودوره في نشوئها فلا يحاول أن يقرأ أو يتعرف على الظروف والأحداث التي واكبت المشكلة، ولكنه يبدأ مباشرة في وضع اللوم على آخر واتهامه وهكذا يبحث الإنسان عن سبب أي إشكال في غير موضعه وفي العادة فالمشاكل والاختلافات بين الأفراد تنشأ في ظروف وأحداث معينة يأخذ كل طرف من ألأطراف المتخاصمة وجهة نظر خاصة به ونتيجة لاختلاف وجهات النظر يقع الخلاف وإذا تطور الخلاف فإن لكل طرف في العادة دور بقدر أو آخر وعليه يكون الحل والتسوية والتفاهم والحلول الوسط والتنازلات المتبادلة.. ولكن في واقع الأمر، من النادر في مجتمعاتنا العربية أن يتأنى أي فرد من الطرفين ويفكر في المشكلة نفسها ودوره فيها بل يتجه بفكره بصورة مباشرة إلى أنه محق وأن الطرف الثاني على خطأ وبالتالي فهو إنسان سيئ. فالنظرة على الأغلب الأعم إلى معاملات الناس وإلى معظم الأحوال حدية وذات شقين: الصواب الكامل أو الخطأ التام!! والثاني: الخير المطلق أو الشر المستديم، وعليه فإما أن يكون الآخر خيّراً أو سيئاً ونتيجة لهذه النظرة الضيقة انتشرت نظرية المؤامرة في العالم العربي لتفسير المشاكل والأزمات دونما بحث في الجانب الذاتي من المسؤولية كما انعكس ذلك في التفسير الشعبي الرائج للعلل النفسية بأنها جن أو سحر أو عين وهذا التحليل يلغي مسؤولية الفرد أو العائلة ويضعها كلها على عاتق طرف خارجي.

هذه العقلية هي ما يقود هذه الجماعات السياسية اليوم.. اعتماد ما يقول الكبير مرشداً وقائداً في جماعة دون النظر في منطقيته وقدرته على تفسير ما يحدث.. لوم الأطراف الأخرى واستبعاد المسؤولية الذاتية أو الشخصية.. الآخر خير مطلق أو شر مستطير... إنها الآليات نفسها التي تقود المريض النفسي في المجتمع العربي وهي فيما يبدو بعض ما يقود هذه الجماعات الإسلامية المتطرفة وبشكل أخف وطأة تقودنا جميعاً في تعاملاتنا مع السلطات القائمة في حياتنا بحيث يحق لنا فعلاً أن نقف ونسأل هل نحن جميعاً مرضى نفسيون وأسرى لقيم غائرة ومتأصلة في ثقافة كسيحة تغيب العقل الفردي والمسؤولية الذاتية لتستمر سيطرتها على عموم المجتمع؟.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد