طبقاً لما نراه ونسمعه قولاً وعملاً فإن العرب مأخوذون بفكرة الأول بمعنى السبق وهي عندنا الإلغاء الكامل لكل المعطيات السابقة والابتداء من جديد، هدم البناء القائم وعدم الاعتراف بخبرة وعلم المهندس الذي بنى ذلك البناء واعتمد على خبرات من سبقه وإعادة بناء المبنى بالاعتماد على خبرة ذاتية محدودة، وهذا تصرف يكتنفه مضمون الإلغاء للآخر وأن ممارسة هذه الفكرة لا محالة ذات نتائج مدمرة في كل المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية وخصوصاً في العلاقات البشرية وهي ذات تأثير سلبي.
وبموجب مقاييس علم الاجتماع وخصوصاً قديمه ما جاء في مقدمة ابن خلدون، تلك المقدمة التي اعتمد عليها وأخذ منه علماء الاجتماع في العصر الحاضر، فإن مدلول مفهوم الأول، ليس له سوى تفسير واحد فقط، وهو أن صاحبه مصاب بداء (مركب النقص) الذي يضع حجاباً حاجزاً بين صاحبه والآخرين فيمنعه من التفاعل مع الناس والتعامل معهم بمبدأ الأخذ والعطاء وبمعنى آخر يبعده عن الاستفادة من التراكم المعرفي وأن مثل هذا المفهوم (الأول) يراه المرء ويلمسه حيثما تحرك وبين شرائح عديدة من المجتمع العربي.
لقد روى أحد العلماء على أنه غاب عن الوطن في رحلة علمية استطلاعية لمدة شهر وعندما رجع أراد أن يتابع تواصله مع الجهات التي كان له معها ارتباط مهني، فقال: رزت أحد المواقع وبعد دخولي شككت في نفسي.. هل أنا موجود في الموقع المقصود أم لا..؟
اكتشفت لاحقاً أنني في الموقع المطلوب ولكن رأيت كل شيء قد تغير فلا الوجوه وجوه ولا المدير هو مدير فخرجت من الموقع وزرت موقعاً آخر ووجدت ما وجدته في المركز الأول.
فغادرت المكان وسألت وقلت في نفسي: هل أصبح مبدأ الأول سنة متبعة؟
هذا الأمر لا نجده في الغرب إذ إنهم يعتمدون على الخبرة ويؤمنون بمفهوم الاستفادة من تراكم المعرفة وبالطبع فإن هذا المبدأ هو ما يجب أن نعتمده في مجمعنا العربي ولولا استفادة العالم من تراكم المعرفة لما وصل إلى مثل هذا التقدم.
وعودة إلى ما ذكره العالم الذي زار بعض المواقع فإننا نستنتج أن العرب ليس لديهم التراكم المتواصل في الإدارة يأتي مدير جديد فيشطب كل القرارات التي اتخذت في عهد المدير السابق ويجري حركة تنقل واسعة بين الموظفين بحيث يوزعهم على أمكنة أخرى ويأتي بكادر خاص له - وهكذا دواليك وتكون النتيجة هبوط مستوى الأداء الوظيفي وطبعا الخاسر هو الوطن. لماذا لا نأخذ درساً من الذين أخذوا بمبدأ تراكم المعرفة فاستفادوا من المعارف التي وصلت إليها اليونان؟
إن ما نراه عكس ما فعل الرومان واليونان والغرب الذي أخذ تراكم العلوم اليونانية والرومانية والعربية والإسلامية وبنى عليها حضارته، عندما يأتي من يشغل المنصب فيلغي الآخر وأحياناً وفي معظم الأحيان لا يقرأ ما لديه من المعطيات، وهكذا نعتمد ثقافة فردية دون النظر إلى التراكم المعرفي ويتحول الرأي عند العرب في معظم الأحيان إلى هبات سرعان ما ينطفئ مثل نيران الهشيم ومن أجمل ما قرأت كلمة لناقد فرنسي هو موريس بلانشو حيث يقول: الأول ليس بداية بل استنتاجات: أن تكون: هو استحالة أن تكون الأول.
وبالنسبة لي فإن مفهوم (الأول) هو سلب لحقوق الآخرين وحرمانهم من فرصة المساهمة في بناء مجتمعهم بل هو منتهى ظلم الإنسان للإنسان والعاقل هو من يؤمن بالتراكم المعرفي كما هو الحال في الثقافة الغربية وعلى أولئك الذين يؤمنون بمبدأ الأول أن يعرفوا بأنه إذا كان لديهم إبداع فقد أبدع كثيرون من قبلهم وعليهم أن يتخلوا عن أنانيتهم ويلحقوا بموكب التراكم المعرفي للإنسانية.
في الشرق الأقصى نجد ثقافة كنفوشيوس التراكمية ما زالت موجودة ولذلك استمرت الحضارة الصينية وبالنسبة لنا لو أننا حافظنا على تراكم ثقافة نبينا الكريم لأمكننا أن نتخطى جميع الحواجز التي تحول بيننا وبين التقدم الحضاري.