يمضي مؤلفنا الطلعة في حديثه الشيق مقسما القراء إلى أقسام عدة فيقول: (لقد تعامل فئة من القراءة مع الكتب تعامل المصادر والمراجع فلم يقرؤوها كاملة، وإنما اكتفوا بالرجوع إليها في حال استغلاق كلمة أو توضيح مبهم أو كشف عن موضوع أو سوى ذلك وقد تمر الأيام ذوات العدد ولم يفتح أحدهم كتابا فضلا عن قراءته حيث الحاجة إليها مفقودة ولهذا استعاض أولاد عن الكتاب بالأقراص الحاسوبية لأنها قريبة التناول رخيصة الثمن) ثم يركز على نقطة هامة تتميز بها طائفة من قراء الكتب فيقول: (وفئة أخرى جعلت القراءة ديدنها وعمرت أوقاتها بها ولكن مع هذا الحرص لم تجد الفائدة المتوخاة منها بالمقارنة مع الوقت الذي تقضيه فيها، وما درى هؤلاء أن القراءة لا تقف على كثرة ما يقرأ وإنما على كيفية القراءة ونوع الكتاب وكيفية العيش معه والتروي منه أشد الرواء وأنه كلما كانت القراءة فعالة أكثر كان النتاج المتحصل منها أكبر وأغزر، لهذا فإن السؤال المهم الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا دائما: كيف نقرأ قراءة فاعلة مثمرة، وقد حاولت في هذا الكتاب أن أجيب على هذا السؤال الكبير وأن أستهدف تلك الشريحة من القراء).
وأستميح المؤلف الفاضل عذرا في العجلة على الإجابة على جزء من هذا السؤال الهام وهو أن علماء التعلم والتعليم الذاتي يركزون تركيزا قويا على الذاكرة الآلية وهي التي تختص بتذكر المعلومات وطريقة كتابتها ويعتبرون طريقة الحفظ المثالية هي المتمثلة في تكرار المعلومات حيث أظهرت نتائجهم التجريبية أنه بعد قراءة النص مرتين أو ثلاث مرات واستخدام الحفظ الشامل فإن الذاكرة تحتفظ بكم من هذه المعلومات المحفوظة، وأما في حالة فقد التكرار فإن المعلومات يحدث لها اضمحلال بعد يومين أو ثلاثة، لذا فإن الطريقة المثالية لقراءة الكتب هي في التكرار والإعادة مما يؤدي لحفظ المعلومات وسرعة تذكرها وهذا الجانب من أهم الجوانب التي ركز عليها علماء ونبغاء التعلم الذاتي كالعالم ل.ي. روفنسكي في كتابه الرائد: الفعالية والتعلم الذاتي، وهذا ما حدا بالأديب الكبير العقاد إلى أن يقول في كتابه الرائد: (أنا): (إن قراءة كتاب واحد ثلاث مرات غالبا أنفع من قراءة ثلاثة كتب في الموضوع نفسه)، ولا يخفى على طالب لبيب، وقارئ نجيب أن العقاد كان طلعة كتب ونحلى أدب، ويعقب المؤلف على عبارة العقاد بقوله: (نظرا لأن في هذا تركيزا على موضوعات الكتاب ووقوفا على معانيه بجلاء وزيادة في التأمل وما يفوت في القراءة الأولى يعوض في الثانية).
ومن العلماء الذين عكفوا على قراءة كتب معينة مرات عديدة وأشار إليهم مؤلف الكتاب:
* أبو بكر الأبهري: قرأ مختصر ابن الحكم خمسمائة مرة والأسدية خمسا وسبعين مرة، والموطأ خمسا وأربعين مرة، ومختصر البرقي سبعين مرة.
* عبدالله بن إسحاق المعروف ب(ابن التبان) درس كتاب المدونة ألف مرة.
* إسماعيل بن محمد الفراء الحراثي قرأ (المقنع) مئة مرة.
* عبدالله بن محمد الزريراني طالع (المغني) ثلاثا وعشرين مرة.
لا أكتمك أيها القارئ الكريم قولا وصدقا وحقيقة وهي أن الأستاذ القدير: فهد الحمود - حمد الله سعيه - أشار إلى هذه الناحية في كتابه هذا بعمق وإسهاب تحت عنوان: (قراءة الدرس والضبط والتحصيل) ومما جاء فيها قوله: إن هذا الضرب من القراءة هو عماد القراءات وأساسها وهو الذي يبني القارئ ويؤهله تأهيلا يستطيع معه أن يميز بين الأمور بميزان العلم وحده وهو الوجه الآخر للتعليم الذاتي، وصنو الدراسة على الأساتيذ والمشايخ نظرا لأنه يقوم على المواظبة على مطالعة الكتب والتعمق في دراستها والبحث عن مخبآت الكتب والدفاتر، وفي تاريخنا الغابر والمعاصر أمثلة كثيرة لا تحصى ولا تعد تبين لنا اجتهاد العلماء والطلبة في التحصيل الذاتي والقراءة الفردية وهذا أنتج نوابغ استوعبوا علوما جمة، وفنونا عدة، فصنفوا وأبدعوا معتمدين في ذلك على تحصيلهم الذاتي بشتى المعارف والفنون.
إن الدراسة النظامية أو عن طريق المشايخ إنما تفتح أبوابا للعلم مشرعة بينما القراءة الجادة هي التي تستكمل وتبني الشخص بعد ذلك وإنك لو فتشت في أحوال العلماء لوجدت أن الذي صنعهم وأخذ بأيديهم هي تلك القراءات الجادة التي ينصرفون إليها بكرة وأصيلا فمن طريق إدامة النظر وغربلة ما يقرؤون النظر الفاحص فيه حصلوا ما حصلوا..
إن من يقرأ بكمية أكبر وليس بنوعية أفضل يستحق الإشفاق أكثر من أن يستحق المكافأة ولذلك نجد أن عظماء الكتاب كانوا قراء عظماء ولكن لا يعني هذا أنهم قد قرؤوا كل الكتب التي كان موجودة في زمانهم، وهم في حالات عديدة قد قرؤوا كتبا أقل بشكل جيد.
قال توماس هوبس: إني لو قرأت كتبا عديدة كما يفعل أكثر الناس فإني سأكون قليل الذكاء مثلهم).
ويمثل المؤلف بأمثلة هامة جدا لعلماء أدركوا بواطن وكوامن ومغازي قراءة البحث والضبط والتحصيل، فيقول: (ومن لطيف ما يذكر في المجال أن هناك من اعتنى بكتب معينة حفظا وإقراء حتى عرف بها وأصبحت لقبا عليهم ومنهم:
* علي بن محمد أبو الحسن سمي بالفصيحي لكثرة دراسته لكتاب الفصيح.
* أحمد بن محمد الإربلي عرف بالتعجيزي لحفظه كتاب التعجيز.
* أحمد الواسطي عرف بالوجيزي لأنه كان قد حفظ الوجيز واعتنى به.
* بدر الدين الزركشي لقب بالمنهاجي لأنه حفظ منهاج الطالبين.
* محمد بن سليمان الرومي عرف بالكافيجي لكثرة اشتغاله بالكافية في النحو فنسب إليها بزيادة جيم كما هي قاعدة الترك في النسب).
ومن خلال ما سبق يتضح لنا أن هؤلاء العلماء القدامى تعلموا ليكونوا، فقد طوروا علمهم وتعليمهم وهذبوا تفاعلهم وفاعليتهم وقدموا لتاريخ البشر شيئا كثيرا قبل أن يقدم العالم إيدجار فور Edgar Faure تقريره المشهود (تعلم لتكون) Learn to be، في بداية السبعينيات مما قاد بالعلم الحديث أن يطور من نظرية التعلم والتعليم الذاتي التي كانت تضرب بجذورها في أعمق أعماق التراث والتاريخ العربي، وفي كتاب الفعالية والتعلم الذاتي للعالم الروسي ل.ي. روفنسكي ما يشبع النهمة، ويشحذ الهمة، ويمتع الذائقة.
ولي وقفة أخرى مع الكتاب في القريب العاجل إن شاء الله تعالى.
- تأليف : الأستاذ فهد بن صالح الحمود