Al Jazirah NewsPaper Thursday  08/10/2009 G Issue 13524
الخميس 19 شوال 1430   العدد  13524
كتابات
حنين بيوت الطفولة
خالد البسام

 

في ربيع عام 2007 زرت مدينة عنيزة بالسعودية بعد غياب سنوات طويلة بسبب ظروف الحياة والعمل وغيرها. كان الشيء الأول والاهم هو زيارة البيت الطيني الذي ولدت فيه وعشت الكثير من طفولتي بين جدرانه وساحاته. ومع اننى كنت اعرف إن البيت بل الحي كله قد هدم إلا إن المفاجأة كانت أكثر من أن استوعبها. ففي أحد الصباحات ذهبت مع احد أقربائي ووقف يريني ما بقي من الأطلال. كانت المأساة انه لم يكن هناك أطلال ولا آثار للبيت ولا للشوارع الضيقة ولا حتى للحي.

وقفت كالمذهول اسأل ابن خالتي: وأين ذهب هذا؟ وأين ذلك البيت ؟ وأين السوق الصغير؟ أين المسجد؟ لم يكن عنده غير سؤال واحد:هدمت.. هدمت .

لقد تحول المكان إلى مجرد بقعة إسفلتية سوداء كبيرة تدعي مواقف سيارات. كأن سواد الإسفلت هو الذي تلقي عزائي برحيل بيت الطفولة والولادة الأول.

كانت النخيل ورائي كأنها تقول: أنا باقية والطين ذهب. لكنها في الواقع لم تمنع دموعي التي احتشدت في عيني من أذق طعم ملوحتها وهى متناثرة على خدي.

ذكرتني تلك الدموع بدموع أخرى ذرفتها على غياب بيتنا الكبير في المنامة الذي تحول هو الآخر إلى موقف سيارات. وقتها كان ذلك البيت مكانا آخر للطفولة والصبا والكثير من اللهو الذي راح بسهولة، وبقت ذكرياته عصية على النسيان. هو الآخر لم يبق أطلالا، ولم يترك آثارا كي نعرفها، كل ما تركه هو مكان خلاء مملؤة أرضه بالإسفلت الأسود يتحدث لنا عن تقدم مزعوم في مدن الخليج والجزيرة.

كأن مواقف السيارات كتبت لكي نعيشها بديلا عن بيوتنا الجميلة.

أية فاجعة واى حزن وأية مأساة تحل بك وأنت تذهب إلى بيتك القديم، منزل الطفولة والصبا، ومكان اللهو واللعب والأحلام الجميلة، وتجده قد اختفي تماما، وتحول إلى مكان إسفلتي اسود قبيح تحتشد فيه عشرات السيارات؟

عندما نمر على بيوتنا القديمة التي هدمها التطور المزعوم نسأل بحنين حقيقي وبشوق جارف: أين ذهبت غرفنا الكبيرة والنوافذ الملونة والحوش وشجرة الكنار والنخيل وملاعب الطفولة والأسطح الكبيرة؟

كلها اختفت أو كادت والمزيد والكثير بانتظار قرارات الإعدام والإزالة والهدم، فلا رحمة تستحقها تلك البيوت القديمة ولا فكرة تطرأ على احد بالترميم واحترام هذا المعمار الجميل.

وبينما آخر ما يفكر فيه عندنا هو المعمار، فإن أول واهم شئ يعمل- ولا يفكر- في الغرب هو الإبقاء على المعمار خاصة إذا كان معمارا متميزا وتاريخيا.

واى زائر لباريس الجميلة حقا بمعمارها سيلاحظ إن كل المباني باقية على الأقل بشكلها المعماري الخارجي، ويستطيع المالك أن يفعل ما يشاء في داخل المبني أو البيت، وهذه طبعا ليست رغبة من الملاك، إنما هي قوانين بلدية ملزمة لأصحاب العقارات كلها، وهناك كما هو معروف إحياء جديدة كاملة في ضواحي باريس مخصصة للبناء الجديد.

وهكذا فإذا كنت في أوروبا فإن أحفاد الأحفاد يستطيعون زيارة بيوت أجدادهم ويرونها كما هي بكل بساطة، أما نحن فلا نستطيع تفقد بيوت طفولة فارقناها قبل ثلاثين أو أربعين سنة!

كم دمعة تستحق أن تذرف على بيوتنا الراحلة التي صارت بقعا سوداء تعج بالسيارات، وتبقي بلا تاريخ ولا جغرافيا ولا أطلس ولا ذاكرة؟

أرجوكم كفوا عن التقدم واتركوا بيوتنا، ابقوا لنا ولو شيئا من الذاكرة والحنين. بل اتركوا لنا شيئا من الأسى والحسرة!



albassamk@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد