Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/10/2009 G Issue 13529
الثلاثاء 24 شوال 1430   العدد  13529
فقيد (المجتمع الدَّفَّان)..؟!
حمّاد بن حامد السالمي

 

- فقدنا بالأمس، علماً بارزاً من أعلام الوطن، وعالماً مبرزاً في البحث العلمي، هو الأخ والصديق البروفيسور (ناصر بن علي الحارثي)، رحمه الله رحمة واسعة، وأسبغ عليه رضوانه وغفرانه.

- سألني صديق ذات مساء، ونحن نتبادل التعزية، ويذكِّر بعضنا بعضاً مآثر ومفاخر الفقيد وهو يقول: جميل أن نكتب وأن نشيد بما قدّم فقيد الوطن والثقافة، من بحوث ودراسات، سوف تبقى شاهدة على نجابته ونباهته وإخلاصه للعلم وطلاب العلم، فهذا حقه علينا.

- قلت لصديقي هذا: الأجمل من هذا كله، لو أنا أعطينا هذا الفقيد هذا الحق وهو حي، لا أن نغمطه حقه حياً، ثم نتذكر حقه وهو ميت، فما أشبه بكائنا عليه بعد موته، وتقريظنا لمنجزه بعد فقده، بمن يشعر بذنبه، ومن يحاول التكفير عن جنحته، ولكن بعد فوات الأوان.

- ها نحن.. نفقد الحارثي في أيامنا هذه، وفقدنا قبله عشرات ومئات الأعلام، ونفقد غداً كثيراً من المبرزين في ثقافتهم وفنهم وعلمهم وعطاءاتهم غير المحدودة، ممن هم في قمة الجدية والإخلاص والتواضع، فماذا فعلنا لمن مات من هؤلاء، وماذا سوف نفعل لمن هم على قيد الحياة، قبل أن نفقدهم، فنندبهم ونبكيهم، ثم نمسح دموعنا، وننسى بعد ذلك أسماءهم، إن لم يمسحها البعض منا بأستيكة؟!

- قضية الوفاء للعلم والعلماء، والأدب والأدباء، والمبدعين والمثقفين والفنانين، هي من أعقد القضايا في حياتنا، وهي لا ترتبط بجهات رسمية فقط، ولا بمؤسسات مدنية فقط، ولا بشرائح اجتماعية دون أخرى. إنها مسألة شعور إنساني جمعي، فإذا لم يعرف المجتمع قدر أعلامه، ولم يدرك قيمة علمائه، ولم يثمن جهود أبنائه، فقل عليه السلام..!

- كم من عالم وشاعر وأديب وفنان ومثقف، يعيش أواخر أيام حياته، في زاوية بعيدة مظلمة، تلفه أحزانه، وتنتابه مشاعر الغبن، ونوازع القهر، وهو يصارع الفاقة، ويقارع المرض، ويقاسي حالة نفسية بسبب تناسيه أو نسيانه.

- بكل تأكيد، سوف ننتظر يوم وفاة هذا الإنسان العظيم، لكي نقيم عليه مأتماً حزيناً، ومندباً وعويلاً، ونعدد في يوم وداعه، مآثره العظيمة، ومفاخره الكبيرة، وما قدم وأعطى وبذل.. إنه يوم مشهود، من أيام الدفن التي نعيشها، ثم لا نغادرها ولا تغادرنا، لأنا لها وهي لنا.

- المجتمع الدفَّان إذن، هو هذا الذي يجيد دفن الحي مثلما يجيد دفن الميت. ولهذا يحرص كثير من المؤثرين في الحراك الاجتماعي، على البروز بصفة مستمرة. هذا أمر غير مستغرب، فهذا حقه إذ أدرك أن انسحابه من الساحة، وخروجه من المشهد، وانزوائه عن الأنظار، سوف يدخله غياهب النسيان، لأن التناسي والنسيان، من مقدمات الدفن، في مجتمع لا يحفل بمن يقضي عمره في خدمته، إلا وهو يحمله في جنازة على أكتافه، فما هي إلا سويعات قليلة تمر، بين دفنه والبكاء على قبره، وتبادل التعازي فيه، ثم تكتمل مراسم الدفن إلى الأبد..!

- إن وصف المجتمع بالدفَّان، ليس من عندي، إنه للراحل الأستاذ (محمد حسين زيدان) رحمه الله. قال ذلك على ما أذكر، في أواخر حياته في برنامج مذاع أو متلفز، وهو العالم العلم الآخر، ما إن رحل عن دنيانا، حتى دفناه ودفنا اسمه معه..!

- في سنوات خلت، كنت أسأل المرحوم الدكتور (ناصر الحارثي) بين وقت وآخر، عن سر نشر بحوثه وكتبه الكثيرة، مرات على حسابه الخاص، ومرات أخرى على حساب جهات من خارج مكة، ومن غير جامعته التي ينتسب إليها طالباً وأستاذاً، وآخرها موسوعته الجليلة: (الآثار الإسلامية في مكة المكرمة)، حيث ظهر على الغلاف أنها: (طبعت على نفقة فاعل خير.. غفر الله له ولوالديه).. كنت أبحث عن إجابة عنده، فما أجد غير ابتسامات معهودة على شفتيه، لا تنم عن شيء، أكثر من الأدب الذي كان يتحلى به، والخلق الذي هو ميزة فيه، وسمة عليه.

- يمكن أن نجعل من فقد عالم كبير مثل الدكتور الحارثي، بهذه الصورة وهذه الطريقة التي اختارها لنفسه - إن صح ما تردد - أو غير ذلك إن كان هناك فاعل. نسأل الله جلت قدرته، أن يظهر الحق، وأن ينصف الفقيد في قبره، وأن ينصره على من فعل أو تسبب في هذه النهاية المحزنة.. يمكن أن نجعل من ذلك عبرة لنا، وبداية للتفكير في إنشاء مؤسسات مدنية نابعة من المجتمع، تتفقد هؤلاء الأعلام في حياتهم، فترعاهم، وترعى جهودهم وإنجازاتهم، وتبقيهم في عيون المجتمع، ولا بأس أن تحيي ذكراهم بعد وفاتهم، وأن تبعث إلى الوجود آثارهم، وترفع من بعدهم أسماءهم.

- اللهم ارحمنا وارحم أموات المسلمين كافة، واجعلنا مجتمعاً يجيد العمل من أجل الحياة، كما يجيد العمل لما بعد الموت، وليس العمل من أجل الموت.



assahm@maktoob.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد