Al Jazirah NewsPaper Tuesday  13/10/2009 G Issue 13529
الثلاثاء 24 شوال 1430   العدد  13529
يعطيك العافية
مي السديري

 

كم هي جميلة أيام الطفولة! عندما كنت صغيرة، كانت جدتي- رحمها الله- تكلفني بمناولتها بعض الأشياء وبالطبع كنت أشعر بالسعادة فأقوم على عجل وأقدم لها الخدمة التي طلبتها مني قائلة لها: تفضلي يا جدتي العزيزة وترد علي قائلة (يعطيك العافية يا حبيبتي) ومن ثم أنظر للأمر باستغراب لأني لم أكن أفهم مغزى الكلمة بمعناها الفعلي وأهميتها للإنسان، وكنت في ذلك الوقت كطفلة لا أهتم بتلك العبارة طالما أن جدتي لم تعطني شيئا ماديا (شوكولاته - ريالا) أو شيئا من هذا القبيل.

مازلت أتذكر كلماتها وكلما تذكرت تلك العبارة أضحك وقد اكتشفت الآن بعد أن نضجت انها كانت على حق وأن دعوتها لي ذات قيمة عالية لا يضاهيها أي شيء وأن القدر كان إلى جانبها.

لقد امتحنني الله بمرض (فايروس) عانيت الأمرين بسببه ومكثت فترة طويلة في المستشفى والحمد لله لقد منّ الله علي بالشفاء وكنت طيلة فترة وجودي أتذكر دعوة جدتي لي بعبارة (يعطيك العافية) وعندها فهمت وعرفت قيمة العافية سواء كانت عافية جسدية أو روحية أو مالية أو دنيوية وأقصد بالعافية الدنيوية هي تمحيصك المعارف جيدا وعندها لا يبقى معك إلا الأوفياء المخلصون في قلوبهم والمصدقون على ذلك الوفاء بأعمالهم وخاصة عند الضرورة، وبهذا التمحيص تكون قد كسبت عافية الأصدقاء.

وفي حالة العافية الروحية يصبح الإنسان وحيدا مهما كان حوله من الناس وحتى لو كان لديه مال قارون إذا لم يكن يتمتع بالصحة والعافية وفي هذا المجال لا يفوتنا أن نذكر بأنه لا يوجد شيء في هذا العالم يوازي قيمة العافية الربانية وعظمة تكوين الله لخلقه حيث يتحرك كل شيء بأعظم تقنية وبسرعة تفوق سرعة الحاسوب، ويكفي أن نمعن النظر في دقات القلب المنتظمة لتدرك عظمة الخالق وكرمه. يا أيها الإنسان عليك ان تعلم أنك زائل وأنك لا تملك حتى نفسك فكيف ولماذا تسعى أن تملك الآخرين دائماً.

هناك فئة من الناس لا تنظر إلى الحياة إلا من منظور المادة والثروة، لا هم لها إلا أن تكدس الثروة وزيادتها لدرجة أنه يمكن وصف هؤلاء الناس بأنهم عندما يحصرون نشاطهم في جمع المال إنما يجمعون بؤسهم، على هؤلاء الناس ألا يكونوا عبيدا للثروة وألا يجعلوا الطمع والجشع هدفا لهم، وعليهم أن يكونوا عبيدا للخالق فقط. إنني أشفق على مثل هؤلاء الناس أنهم أغنياء في الثروة ولكنهم فقراء في قلوبهم. وكلما ارتفع رقم رصيدهم قالوا (هل من مزيد؟) عجبا لمثل هؤلاء الناس، إن السعادة ليست في جمع المال وإنما هي في الصحة والعافية ولا يستطيع المال أن يشفيهم من مرضهم أو أن يسعدهم.

إحدى صديقاتي أخبرتني أن قريبا لها اختفى صوته وأن الحبال الصوتية أصبحت غير عاملة، وهو غني جدا -والغنى لله وحده - كتب على ورقة: (أتمنى أن أفقد مئات الملايين التي أملكها وأن يعود لي صوتي).

إني أتساءل كيف يمكن لمثل هؤلاء الناس أن يهملوا أنفسهم ولا يعطون أنفسهم وأهليهم حقهم، إنهم كمن يدفع صخرة إلى أعلى التلة لا يكسبون سوى التعب والجهد في جمع الأموال.

يُروى أن أعرابيا دخل على هارون الرشيد وأمامه كأس من الماء، فقال له: يا أمير المؤمنين لو كنت في الصحراء ومُنع عنك هذا الماء بكم تشتريه؟ فقال له بنصف ملكي، قال له وإذا شربته ومنع عنك خروجه، قال الرشيد اشتري إخراجه بالنصف الباقي، فقال له الاعرابي: اعطني من هذا الملك الذي لا يساوي كأس ماء.

لقد ذكرت الروايات ان رجلا غنيا جدا حاول بشتى الوسائل ان يحصل على السلام الداخلي وقد سأل العديد من الحكماء ولكنه فشل في الوصول إلى مبتغاه وأخيراً نصحه أحد الحكماء بأنه في مدينة كذا.. يوجد (بهلول) وهو قادر على حل مشكلته.. أسرع إليه فوجده جالسا تحت شجرة وأخبره بوضعه ووضع أمامه حقيبة من الجواهر وقال له: إنه يعطي أي شيء ليحصل على الطمأنينة وأخبره أنه في غاية التعاسة وخاصة ان الموت يقترب.

نظر البهلول إليه وخطف حقيبة المجوهرات وجرى مسرعا على خط متعرج - صاح التاجر الغني النجدة.. النجدة.. سرقني.. تجمع الناس ولحقوا بالبهلول ولكنهم لم يجدوه.. بعد ثلاثة أيام وجدوا البهلول تحت الشجرة وبيده الحقيبة - جاءه التاجر فناوله الحقيقة وقال له: هذه الحقيبة كانت معك طيلة حياتك ولم تعرف قيمتها ولم تحمد الله وتشكره - وكان علي أن أحرمك منها لتشعر بقيمتها وتحمد الله وتشكره - شعر التاجر بالطمأنينة والسلام الداخلي بعد أن عادت إليه الحقيبة وشكر الله وحمده - الحقيقة ان الإنسان لا يعرف قيمة الشيء إلا بعد أن يفقده - وهذا هو الامر بالنسبة للعافية لا يعرف قيمتها إلا إذا مرض.

وقد ذُكر ان شخصا سأل الإمام علي رضي الله عنه عند وفاته ماذا تورث لأولادك؟ فقال له: إني مديون بمبلغ 600 درهم واني أترك أولادي برعاية الله فالولد الصالح على الله رزقه، وأما الولد الطالح فلماذا أترك مالي له لكي يعصي الله في أرضه.

إن الفئة التي تنسى نفسها في سبيل جمع الثروة إنما هي تقوم بحراسة تلك الثروة فقط دون أن تدري ان ما تجمعه لا يساوي كأس ماء - نعم أمرنا الله بالسعي وتحصيل الرزق ولكن دون أن نصل إلى درجة الجشع فقد تكفل الله بخلقه ويكفي الإنسان التوكل على الله والسعي بطلب الرزق وأن عدم العمل بهذا المبدأ إنما يشير إلى عدم الإيمان الكامل، نسأل الله أن يحفظنا من الأمراض وأن يديم علينا الصحة والعافية.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد