Al Jazirah NewsPaper Thursday  15/10/2009 G Issue 13531
الخميس 26 شوال 1430   العدد  13531
نوافذ
الإرث
أميمة الخميس

 

أول قاموس للغة الإنجليزية الحديثة لم يظهر إلا عام 1604، بل إن اللغة الإنجليزية نفسها مرَّت بعدد من المراحل من جذور أنجلو ساكسونية (الدنمارك وألمانيا الآن)، واختلطت مع اللاتينية كلغة للعلوم والآداب، قبل أن تظهر في صيغتها النهائية اليوم كلغة القوى الأولى للتقنية والعلوم في معظم بقاع الأرض.

هذه التواريخ المتأخرة تجعلني أقارن بينها وبين الإرث اللغوي في الثقافة العربية، فقد دوَّن الفراهيدي قاموس العين في القرن الثاني الهجري، وألَّف الثعالبي كتاب (فقه اللغة) في القرن الخامس الهجري، والكتاب الأخير مؤلَّف يحوي بحورا من المترادفات اللغوية، التي تتطلب بيئة فكرية قد وصلت من التعقيد والتطور الحضاري مبلغاً يؤهلها للوصول إلى إنتاج هذا النوع من المؤلَّفات الثقيلة.

وأنا هنا لست بصدد الوقوف على الأطلال والاستيقاف والشجن على الماضي، لكن من حقي السؤال: أين ذهبت هذه الروح النابضة التي كانت تخفق في ربوعنا؟ أين الوهج والتوقد وعلامات الحياة في الجسد الكبير؟ هل ذهبت بها رياح الزمن ومتواليات التغيير؟

ترصد بي هذا السؤال تحديداً في إسطنبول وأنا داخل قصور الخلافة العثمانية المهيبة، حتى إذا خرجت إلى الشارع التركي لم أجد إلا مجاميع بشرية هائلة نشطة ومتوقدة، لكن أقصى طموحها أن تصبح عضواً في الاتحاد الأوروبي.

غموض وغياب الإجابة عن هذا السؤال هو بالتحدي عملية ضمور وخمول في الفكر الفلسفي الإسلامي الذي إلى الآن لم يقدم أجوبة عن أسباب التخلف الحضاري الذي يعيشه العرب خصوصا والعالم الإسلامي عموما.

البعض يرجعها إلى طغيان الفكر الفقهي على الفلسفة، بحيث طوقها ومنعها من القيام بقفزات ومغامرات تخترق السقوف المنخفضة، تلك المغامرات الفكرية التي هي وقود الإبداع والتطوير المشبع بفضول الأسئلة الكونية القادرة على زحزحة المركبة الحضارية من مواقعها القديمة إلى الأمام.

والبعض يفسرها من خلال نظرية المؤرخ أرنولد توينبي حول الدورة الحضارية التي لا بد أن تمر بها الحضارات الكبرى من بزوغ ومن ثم قوة وأخيراً سقوط، ويُفسِّرُ تُوينبي نشوءَ الحضارات الأُولى، أو كما يُسمِّيها الحضارات المُنقطعة، من خلال نظريَّته الشهيرة الخاصَّة ب(التحدِّي والاستجابة)، التي يعترفُ بأنَّه استلهمَها من عِلم النَفس السلوكيّ، وعلى وَجه الخصوص من كارل يونغ Carl Jung ؛ حيث يقول إنَّ الفَرد الذي يتعرَّضُ لصدمةٍ قد يفقدُ توازُنَه لفترةٍ ما، ثمَّ قد يستجيبُ لها بنوعَين من الاستجابة: الأُولى النكوص إلى الماضي لاستعادته والتمسُّك به تعويضًا عن واقعه المُرّ، فيُصبح انطوائيّاً، والثانية، تقبُّل هذه الصدمة والاعتراف بها ثمَّ مُحاولة التغلُّب عليها؛ فيكون في هذه الحالة انبساطيّاً. فالحالة الأولى تُعتَبرُ استجابةً سلبيّة، والثانية إيجابيّة بالنسبة لعلم النفس.

السؤال حول أسباب التخلف الحضاري كبير، وقد أقلق الكثير من رواد عصر النهضة مثل الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده، وسيظل معلقاً ما لم يناقَش بوضوح ومباشرة، ووضع الأصابع على مواطن الجرح.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد