إذا أردنا أن نمعن النظر في كنه هذا الإنسان الذي خلقه الله من طين نجد أنه مكون من متناقضات لا حصر لها، حب وكراهية، فضيلة ورذيلة، تكبّر وتواضع، ذكاء وغباء، حلم وغضب، صفح وانتقام، عقل وقلب، فكر وعواطف، جد وكسل، صبر وضجر، غيرية وأنانية، روح وجسد، وينفرد عن هذه الخصائص ما نسميه بالحدس الداخلي.
يعيش الإنسان حياته وينقضي عمره وهو يراوح بين هذه الأضداد، يعمل فكره النسبي في حل مشاكله معتمداً على تراكم معرفة ورثها عن مجتمعه أو مدرسته أو جامعته، ولكن هذا الفكر هو عنصر غير أصيل عند الإنسان، لأنه لم ينبع عن ذاته وإنما هو مستعار وما أدراك ما المستعار، وهنا لابد من ذكر الذكاء الأكثر شمولية وهو يتعدى حدود المنطق، إنه حدسي وهو خاص بالإنسان.
لقد وصف ماكسيم جوركي الإنسان، فقال: (الإنسان كلمة توحي بالكبرياء)، وقال فرانكلين: (من يقع في حب نفسه فلن يكون له منافسون، هذا الحدس هو الجسر الذي يعبر عليه الإنسان كي يتخلص من الأضداد التي تعكر عليه صفو حياته، وسط هذا التزاحم من المتناقضات يجد الإنسان نفسه بحاجة ماسة إلى مساعدة الحدس، تلك الخاطرة الأولى التي تظهر على شكل ومضة حدسية، جميعنا بحاجة إلى هذا الحدس: العظماء والعلماء، استخدموا هذا الحدس وأوصلهم إلى ما يرغبون إليه من الأهداف، وفي هذا المجال لا يمكن للإنسان أن يشعر بالرضى عن إنجازاته عن طريق الفكر إلا إذا حقق القلب رغباته ولتحقيق هذه الرغبات يحتاج الإنسان إلى الذكاء الذي يمكن الإنسان من استخدام قدرته الفطرية في الإبصار والإدراك من الداخل، وهو حدسي لا علاقة له بالفكر الذي يعتبر نقيضاً للذكاء إذ إن مصدر الفكر هو الرأس الذي يزود الإنسان بما تعلمه من الآخرين وهذه المعرفة غريبة عن الإنسان - لا تولد معه- كما هو الحال بالنسبة للذكاء الذي يولد معه، فهو كائن في الإنسان، إنه طبيعة الإنسان، الحيوانات ذكية، إنها ليست فكرية، وكل طفل يولد ذكياً، ولكن هذا الذكاء يضمحل عندما يحاول الإنسان تقليد الآخرين وإذا أراد الإنسان أن يحافظ على ذكائه يجب عليه أن يتخلى عن تقليد الآخرين، ويمكن القول إنه في اللحظة التي يفكر الإنسان بتقليد الآخرين، أو كيف يصبح مثل شخص آخر فإنه يبدأ بفقدان ذكائه وذاته.
هناك قصة لطيفة في هذا الشأن ومفادها أن غراباً رأي عصفور الدوري وهو يقفز على الأرض برشاقة وأراد ذلك الغراب أن يقلد الدوري وبعد محاولة مضنية فشل في تقليده وأراد أن يعود إلى مشيته ولكنه فشل أيضاً، وبالطبع، فإن الإنسان الذي يقارن نفسه بشخص آخر فإنه يبدأ بفقدان طاقاته الطبيعية؛ إذ إنه يبدأ برؤية الأمور بعيون مستعارة هي عيون الآخرين علماً أنه بحاجة إلى النظر بعينيه حتى يحصل على الرؤية السليمة.
لقد وهب الله لكل إنسان ميزات خاصة به، ولكل شخص بصمة خاصة به كبصمة العين أو الإصبع التي يعتمدها الإنسان للتفريق بين زيد أو عمرو.
قيل: لكل إنسان ثلاثة طباع، طبعه الحقيقي، وطبع يظهر به أمام الناس وطبع يعتقد أنه فيه, نعم، إن الإنسان بحاجة إلى عينيه ليبصر بهما وإلى قدميه ليمشي عليهما، وإلى قلبه لينبض فيه الحياة، ولابد من الاعتراف أن هناك فروقاً فردية ولا يمكن أن يوجد شخصان متشابهان على الإطلاق، وإن كل شخص هو فريد من نوعه، وعلى الإنسان ألاَّ يقارن نفسه بالآخرين، لا تقارن نفسك بالآخرين.. أنت هو أنت.. والآخر هو الآخر، والمقارنة مستحيلة، ومن الحماقة أن يردد الإنسان ما يقوله الآخرون.
يخزن الإنسان المعلومات في عقله ويمكن استرجاعها عند الحاجة، ولكن ذلك المخزون لا يفيده إلا في الرياضيات أو الإحصائيات أو في الجدال أو المنطق، ويمكن أن تسمي ذلك ذكاء الرأس (العقل) مقابل ذكاء القلب الذي يضفي لوناً خاصاً على حياة الإنسان، يمكن لهذا الذكاء أن يخلق شعراً في حياة الإنسان وأن يعطيه إيقاعاً راقصاً لخطواته بل ويجعل حياته مهرجاناً دائماً من الفرح والضحك والاحتفالات - إنه يضفي على الإنسان روح الفكاهة ويجعله قادراً على أن يحب الآخرين ويشاركهم، وهذه هي الحياة الحقيقية. وأما الحياة التي يسيرها الرأس فإنها حياة آلية، إن الحياة تنبع من القلب ولا يمكنها أن تنمو إلا من خلال القلب، وفي تربته ينمو الحب وتنمو الحياة وتنمو الإلوهية، وأن كل ما هو جميل وقيم وذو معنى وهام يأتي من القلب.
وإذا أراد الإنسان أن يعيش سعيداً، وأن يتخلص من التناقضات التي تنغّص عليه حياته، فما عليه إلا أن ينصت إلى إحساسه الداخلي الذي يتمتع بفاعلية خاصة ترشد الإنسان إلى الجمال الذي يرغب فيه حقاً؛ فإن الصوت الآتي من الداخل يحمل معه القوة والشجاعة والكرامة وهو وحده الذي يجعل الإنسان يكتشف ما هو جميل ووحيد ومقدس.
والحالة هذه، على الإنسان أن يكف عن التأثر بالآخرين وأن يبدأ بالنظر إلى حدسه، إلى داخله وأن يسمح لحدسه بأن يتحدث إليه وأن يستمع إلى صوت حدسه الداخلي دون أن ينسى بأنه يجب أن يكون سعيداً بنفسه وبالمحيطين به وإذا شعر بثقل الحياة عليه أن يتخذ من التأمل حصناً داخلياً لنفسه - عليه أن يلجأ إلى ملاذه الداخلي؛ لأن هذا الملاذ يعيد إليه شبابه ويجعله حياً ونقياً وجديداً ومستعداً لأن يحيا وأن يكون راغباً وقادراً على حب الناس - حب الآخر وعلى مواجهة الملل والضجر بشجاعة.
من المهم أن نعرف أن التأمل هو حصننا الداخلي المقدس وهو في غاية الأهمية لأنه يوصلنا إلى داخلنا وأن هذا التأمل جوهر الحياة الكريمة للإنسان.
على الإنسان أن يتحلى بالشجاعة، وأن يستخدم التأمل في رؤية الحياة على حقيقتها، وأن يكتشف عبر ذاته الأمر الذي يتطلب إظهار نتنه الداخلي المتراكم، ويعني ذلك الكشف عرض الأخطاء والضعف الداخلي وعليه أن يعلم أن الفرد فارغ بلا وجود الله، وأن الإنسان هو الفراغ وأن الله هو الكل.
يحاول الإنسان إخفاء عيوبه وعريه وفراغه وقبحه، ولكن عليه أن يعلم بأنه يحتاج إلى الشجاعة في مكاشفة نفسه إذا أراد أن يكون إنساناً حقيقياً، وإذا رغب أن يعيش حياة سعيدة فما عليه إلا أن يشعل شمعة الحياة من الجانبين وأن يستغلها كما يجب، وأن يرفض كل شيء ما عدا ذلك الحدس الداخلي القادم من أعماق قلبه، وأن يقبل ذاته بلا شروط، وعندها لا يشعر بالفراغ وتبدأ الحياة تضج في داخله ويتمتع بنشوة الطمأنينة والسلام الداخلي.
لقد قال عبد الوهاب المسيري -رحمه الله-: الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يرتفع على ذاته أو يهوي دونها، على عكس الملائكة والحيوانات؛ فالملائكة لا تملك إلا أن تكون ملائكة والحيوانات هي الأخرى لا تملك إلا أن تكون حيوانات.. أما الإنسان فقادر على أن يرتفع إلى النجوم أو أن يغوص في الوحل.