Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/11/2009 G Issue 13566
الخميس 02 ذو الحجة 1430   العدد  13566
يوم عرفة
راشد بن عامر الغُفْيلي

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

شرع الله سبحانه وتعالى لعباده حج بيته الحرام، فقال تعالى { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.

وبين رسوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح أن الحج أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، وأوجب ذلك في العمر مرةً واحدة وما زاد فهو تطوع يتقرب به العبد إلى ربه عز وجل.

وفي الحديث الصحيح: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).

وأيضاً (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). وقد أوضح عليه الصلاة والسلام مناسك الحج والعمرة غاية الإيضاح، وبينها أتم البيان بالقول والفعل، وقال (خذوا عني مناسككم).

وحج عليه الصلاة والسلام حجة واحدة؛ وهي حجة الوداع، إذْ ودَّع الناس عقبها بزمن يسير وانتقل إلى الرفيق الأعلى بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

وقد بيَّن أهل العلم -رحمهم الله تعالى- مناسك الحج والعمرة في كتبهم على التفصيل، فذكروا الشروط والواجبات والأركان والسنن والمستحبات وقرنوا ذلك كله بالدليل والتعليل، بل وصُنِّفَتْ الكتب المفردة في بيان المناسك على وجه التفصيل وهي معلومة عند أهل العلم وطلابه، والحمد لله.

ومن أركان الحج التي لا يصح إلا بها (الوقوف بعرفات) في اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وفي الحديث الصحيح (الحج عرفة).

ومن فاته الوقوف في وقته المحدد شرعاً فاته الحج.

وهنا وقفات في بعض أحكام هذا اليوم العظيم، عَلَّ الله تعالى أن ينفع بها:

الوقفة الأولى/ المراد ب(عرفات) وسبب التسمية.

الوقفة الثانية/ حدودها الشرعية.

الوقفة الثالثة/ وقت الوقوف بعرفة.

الوقفة الرابعة/ فضل ذلك اليوم العظيم، وفيه إبطال ما توهمته العامة.

الوقفة الخامسة/ صيام يوم عرفة للحاج، ولغير الحاج، وفي ضمنه إفراد يوم الجمعة أو يوم السبت بالصيام إذا وافق يوم عرفة.

أما الوقفة الأولى/

قال الجوهري في (الصحاح 4-1041: وعرفات موضع بمنى.أ.هـ

وقال البعلي في (المطلع) ص-108: وعرفة غير منون للعلمية والتأنيث وهي مكان معيَّن محدود، وأكثر الاستعمال عرفات.أ.هـ.

وفي كتاب (معالم مكة التأريخية والأثرية) ص/182: عرفات: المشعر المعروف من مشاعر الحج، وهو أشهر من أن نعرفه، وليس هو جمع عرفة كما يظن البعض، إنما هو مفرد على صيغة جمع، وله نظائر في لغة العرب، وهي فسيح من الأرض محاط بقوس من الجبال يكون وتره وادي عرنة.أ.هـ

وأما سبب التسمية: فقال في (المطلع): وسمي عرفات، لأن جبرائيل عليه السلام كان يُري إبراهيم عليه السلام المناسك، فيقول: عرفت عرفت، نقله الواحدي عن عطاء.

وقيل: لأن آدم عليه السلام تعارف هو وحواء بها، وكان آدم أهبط من الجنة بالهند وحواء بجدة.أ.هـ

وأما الوقفة الثانية/ قال الشيخ عبدالله البسام في نيل المآرب 2-423:

حدود عرفات: 1- الحد الشمالي: هو ملتقى وادي وصيق بوادي عرنة في سفح جبل سعد. 2-الحد الغربي: هو وادي عرنة، ويمتد هذا الحد من محاذاة وادي عرنة واجتماعه بوادي وصيق إلى أن يحاذي جبل نمرة. ويبلغ طول هذا الضلع خمسة آلاف متر، فهذا الوادي فاصل بين الحرم وبين عرفات.

3- الحد الجنوبي: هو ما بين الجبال الجنوبية لعرفات وبين وادي عرنة.

4- الحد الشرقي: هي الجبال المقوسة على ميدان عرفات ابتداءً من الثنية التي تنفذ إلى طريق الطائف، وتستمر سلسلة تلك الجبال حتى تنتهي بجبل سعد. وجوه الجبال المحيطة بعرفات تعتبر من عرفات.أ.هـ كلامه.

أقول/ وقد قامت حكومتنا السنية الرشيدة -وفقها الله تعالى- بوضع أعلام تضبط حدود المشاعر كلها، وهي ظاهرة واضحة، والحمد لله. وعرفات كلها موقف إلا بطن وادي عرنة، لقوله عليه الصلاة والسلام (وقفت ههنا بعرفة وعرفة كلها موقف) (وارفعوا عن بطن عرنة).

وقال النووي في الإيضاح ص-277:

واعلم أن ليس من عرفات وادي عرنة ولا نمرة ولا المسجد الذي يصلي فيه الإمام المسمى مسجد إبراهيم عليه السلام، ويقال له أيضاً مسجد عرنة؛ بل هذه المواضع خارج عرفات على طرفها الغربي مما يلي مزدلفة ومنى ومكة.أ.هـ المراد منه.

وعليه فيتعيَّن على الحاج التأكد من أن وقوفه داخل حدود عرفات.

وأما الوقفة الثالثة/ فالذي عليه جمهور أهل العلم وبه قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن وقت الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر ليلة العيد.

وقال ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه (المغني) 5-274:

وقت الوقوف في طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر من يوم النحر. ولا نعلم خلافاً بين أهل العلم في أن آخر الوقت طلوع فجر يوم النحر. قال جابر: لا يفوت الحج حتى يطلع الفجر من ليلة جمع. قال أبو الزبير: فقلت أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قال: نعم. رواه الأثرم.أ.هـ كلام ابن قدامة.

أقول/ والاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام أفضل، وهو لم يقف إلا بعد فراغه من صلاتي الظهر والعصر جمعاً.

قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وأما الاكتفاء بالوقوف يوم عرفة قبل الزوال، فقد قدمنا أن ظاهر حديث ابن مضرس المذكور يدل عليه، لأن قوله صلى الله عليه وسلم (أو نهاراً) صادقا بأول النهار أو آخره. كما ذهب إليه الإمام أحمد. ولكن فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه من بعده كالتفسير للمراد بالنهار في الحديث المذكور وأنه بعد الزوال، وكلاهما له وَجْهٌ من النظر، ولا شك أن عدم الاقتصار على أول النهار أحوط، والعلم عند الله تعالى.أ.هـ كلامه.

وأما الوقفة الرابعة/ فلا شك أن يوم عرفة يوم عظيم كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة من السنة النبوية، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً. قال: أي آية؟ قال: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}.

قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.

وخرَّج الإمام مسلم في (صحيحه) عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول ما أراد هؤلاء).

ولا شك أن هذا فضلٌ عظيم من الله عز وجل لأهل الموقف، فينبغي لمن وفَّقه الله تعالى وبلَّغه إلى تلك الديار أن يَشْغل وقته في طاعة الله عز وجل، ولا سيّما في ذلك اليوم العظيم بالتقرب إلى الله تعالى ورفع أكف الضراعة إليه سبحانه، والإكثار من الذكر والدعاء وقراءة القرآن؛ فما هي إلا لحظات معدودة.

وما يفعله بعض الحجاج -هداهم الله- من إمضاء الوقت أو أكثره في القيل والقال والكلام الذي لا فائدة فيه، أو الاستماع إلى ما حرم الله تعالى ونحو ذلك، فهذا لا شك أنه خطأ، وأن صاحبه حرم نفسه من خير عظيم.

وقد شاهدتُ بنفسي في سنوات مضت وفي عصر ذلك اليوم العظيم -يوم عرفة- أناساً ضيَّعوا أوقاتهم فيما لا فائدة فيه من ارتكابهم أموراً منكرة كالتصوير واستماع آلات اللهو فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ومما يتعلق بفضل ذلك اليوم إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة فيجتمع فضيلتان؛ فضيلة يوم عرفة، ويوم الجمعة.

وأما ما ورد من أن (أفضل الأيام يوم عرفة إذا وافق يوم الجمعة، وأنه أفضل من سبعين حجة في غير جمعة).

فهذا باطل لا أصل له في شيء من كتب الحديث المعتمدة؛ بل هو جار على ألسنة العوام.

وأما الوقفة الخامسة/ وهي صيام يوم عرفة للحاج ولغير الحاج: فمما لا شك فيه أن الصيام من العبادات الجليلة التي يتقرب بها العبد إلى ربه عز وجل، وقد اختصه الله تعالى لنفسه كما في الحديث القدسي: (إلا الصوم فإنهُ لي وأنا أجزي بهُ).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوماً في سبيل الله بعَّد الله وجههُ عن النار سبعين خريفاً) (البخاري برقم2840، ومسلم برقم 1153).

وإذا اجتمع للمسلم فضل الزمان والمكان والعبادة كان ذلك من الفُرص العظيمة التي لا ينبغي تفويتها.

وقد اختلف العلماء في صوم يوم عرفة للحاج:

1. فذهب بعضهم إلى جوازه، بل كان بعضهم يميل إلى ذلك كما هو مذهب إسحاق بن راهويه (فتح الباري 4-2802)، وبعضهم كان يعجبه صومه كما هو مذهب الحسن ويُحكى عن عثمان، وهو اختيار الشافعي في القديم والخطابي. (المصدر السابق).

وقال الإمام أحمد: إن قدر على الصوم صام، وإن أفطر فذاك يوم يحتاج فيه إلى قوة. واستحب صيامه أبو حنيفة إلا أن يُضْعفه عن الدعاء.

وسُئِل ابن عمر عن صيامه فقال: لا أصومه ولا آمر به ولا أنهى عنه. (أخرجه ابن حبان في صحيحه برقم 3604 وقال محققه صحيح على شرط مسلم).

2. وذهب عامة أهل العلم إلى كراهية صومه للحاج، كما حكاه عنهم ابن عبد البر في التمهيد.

ومستندهم حديث أم الفضل أنها أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح فيه لبن وهو واقف على بعيره بعرفة، فشرب منه. (متفق عليه).

وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم (زاد المعاد 2-63).

وقال العلامة ابن باز رحمه الله تعالى: والسنة للحجاج الإفطار لأنه أقوى للدعاء وأنشط على أعمال الحج، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم عرفة في عرفة.أ.هـ.

وعليه فالسنة للحاج أن يُفطر في ذلك اليوم اقتداءً بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، أما من صامه لقوةٍ فيه فلا ينبغي تبديعه أو الإنكار عليه، لا سيما وأنه ثبت صيامه عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. والعلم عند الله تعالى.

وأما لغير الحاج فيُسنُّ صومه ويتأكد هذا لما فيه من الفضل العظيم، كما في حديث أبي قتادة رضي الله عنه، وفيه: (صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده...) (أخرجه مسلم برقم 1162).

انتهى ما أردت تقييده، سائلاً المولى عز وجل أن ينفع به، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

- عضو التوعية الإسلامية في الحج
-المدرس بالمعهد العلمي في محافظة الرس



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد