Al Jazirah NewsPaper Thursday  19/11/2009 G Issue 13566
الخميس 02 ذو الحجة 1430   العدد  13566

ابن باز: من ترك حج النفل يقصد التوسعة على المسلمين فأجره بترك الحج أكثر من أجره بالحج!!
د. علي بن محمد الحماد

 

الحج منسك عظيم، ومشهد إيماني جسيم، وموقف روحاني كريم، تتجلى فيه عَظمةُ هذا الدين، وتتجسد فيه أروعُ مظاهر اليقين، وترتسم فيه أبلغ وحدةٍ لإخوة الدين، ذلك حين يقفُ المسلمون على صعيد واحد ملبين مهللين مكبرين، تخفِق قلوبهم بالنفحات الربانية، وتنبض مشاعِرهم بالخلجات الإيمانية، تهفو إليه أفئدة المسلمين وتشتاق إليه أرواحُ العارفين، وترنو إليه مُهج الآفاقيين.

قال الله تعالى مخاطباً خليله إبراهيم عليه السلام:{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} سورة الحج 27).

خوطب بذلك عليه السلام بعد فراغه من بناء البيت العتيق، فلما أمره الله بالأذان قال: يا رب! وما يَبلُغ صوتي؟ قال الله: أذن وعليَّ الإبلاغ. فصعد إبراهيم عليه السلام (جبل أبي قبيس) وصاح بالناس: إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار، فحُجُوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: (لبيك اللهم لبيك). فهذا هو معنى لبيك اللهم لبيك، أي إجابة لك بعد إجابة. وقال: يأتوك وهم آتون للكعبة؛ لأن إبراهيم هو المنادي؛ فمن أتى الكعبة حاجاً فكأنما أتى إبراهيم لأنه أجاب نداءه، وفي هذا تشريف لإبراهيم عليه السلام، والضامر هنا: هو البعير المهزول الذي أتعبه السفر، وسبب الضمور أنهم يأتون من كل فج عميق، وطريق بعيد، يقطعون الفيافي والقفار، ويكابدون الوهاد والأسفار، ويسيرون الليل والنهار.

إن للحج وزيارة البيت العتيق حنيناً روحانياً، ووهجاً إيمانياً وحَفْزاً للقلوب إلى الديار المقدسة كما تتهادى الإبلُ الهيمُ إلى موارد المياه.

قال إبراهيم عليه السلام عندما أسكن ذريته بوادٍ غير ذي زرع عند بيته المحرم، قال: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (سورة إبراهيم 37)، وهذا والله أعلم سر ولوع الناسِ بمكة وهيامهم بها. قال ابن عباس ومجاهد: إنه قال: أفئدة من الناس (أي بَعْضهم) ولو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهِند واليهود والنصارى والمجوس. أهـ.

وفي قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً}، أي مرجعاً لهم، فلا يكادون يقضون وطرهم فيه إلا اشتاقوا له مرة أخرى، والحج واجب على الفور لا على التراخي على قول أكثر العلماء المحققين، ومن معاصرينا منهم سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله -. قال الله تعالى:{وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}.

وقد جاء في الأثر عنه - صلى الله عليه وسلم -: من ملك زاداً وراحلة ولم يحج فلا عليه أن يموت يهودياً أو نصرانياً.

وفي غِمار أداء مناسك الحج، وأمام هذه الحشود البشرية الهائلة، تتجلى معادن الإيمان، ويُبتلى عباد الرحمن ليظهر مَنْ إيمانه راسخ رسوخ الشُم الراسيات، ومن يعبد الله على حرف! قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (سورة المائدة 94)، فالحجاج قد أعياهم الجهد والنصب وبَعُدتْ عليهم الشُقّة!! ومع ذلك ابتلاهم الله بالصيد وهم في أشد الحاجة إليه، واليوم مع هذه الجموع الغفيرة من الحجيج على اختلاف لغاتهم وألوانهم وأخلاقهم وطبائعهم ها هم في محك واختبار حقيقي لمن يصبر على أخلاقهم ولأوائهم، ويكبح جماح النفس عن الغضب فيقابل السيئة بالإحسان، ويلين بيدي إخوانه، ويؤثر الغريب على نفسه، ويدفع بالتي هي أحسن حتى يعود المخاصم كأنه وليٌ حميم!! كما أن عليه أن يأخذ العفو ويأمر بالمعروف ويعرض عن الجاهلين!! {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.

إنّ على كل منا أن يستشعر أن ضيوف الرحمن ضيوف عليه خاصة، وأن يراعي فيهم الجهل وقلة ذات اليد، ووعثاء السفر، وكآبة المنظر والغربة والكربة، وأن فيهم الصغير والكبير وذا الحاجة!

إن الغريب له حق لغربته

على المقيمين في الأوطان والسكن

لا تنهرن غريباً حال غربته

فالدهر ينهره بالذل والمِحَن!!

قال الشيخ ابن باز رحمه الله: مَنْ تَركَ الحج والعمرة النفل بقصد التوسعة على المسلمين وعدم مزاحمتهم فهو إلى الأجر أقرب بالترك منه إلى الفعل.أ.هـ. ولكنّ لدى الكثير منطقاً عجيباً، ومبدأ غريباً يتسللون منه لِواذاً عن هذه الفتوى، وهي قولهم (وماذا يضير المشاعر زيادتي فيها وحدي!!) وهو يعلم أن هذا هو منطق مليون رجل وامرأة!! قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من له أقارب محاويج فصدقته لهم أفضل من حجه، أو كذلك غيرهم وهم لها مضطرون.

وليعلم أن دفع تكاليف الحج والعمرة النفل للمجاهدين في سبيل الله أفضل من تكرارهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم - عندما سئل كما في البخاري أي العمل أفضل: فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل ثم أي؟ قال حج مبرور، فقدّم الجهاد ها هنا على الحج، ومن جهَّز غازياً فقد غزا، وهذا الذي أفتى به الشيخ ابن باز رحمه الله.

وفي وصفه سبحانه لأداء مناسك الحج قال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} فما وجه ذكر الآباء؟ ولِمَ خصّ الآباء دون الأمهات؟ قال المفسرون: كانت عادة العرب إذا قضت حجها أن تقف عند الجمرة فتفاخر بالآباء، وتذكر أيام أسلافها من بسالة وكرم، فنزلت هذه الآية ليلزموا أنفسهم ذكر الله أكثر من التزامهم ذكر آبائهم في الجاهلية.

وخص الآباء بالذكر: إشارة إلى أن الصبي إذا داهمه الخوف اعتزى بأبيه لا بأمه.. وها هنا على المسلم أن يجأر إلى ربه ليطعمَه من جوع ويؤمنه من خوف!

كما أن على كل من عزم الحج أن يأخذ أهبته ويستعد بما لا بد منه من نفقة وسكن وسواه، حتى لا يكون عالة على الناس يُريق ماء وجهه فلا يبقى فيه مُزعة لحْم. قال تعالى: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}، قال الفقهاء: فيه أمرٌ بأخذ الزاد. قال ابن عباس - رضي الله عنه - كان أناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فنزلت هذه الآية. وأمرهم عمر - رضي الله عنه - بأخذ الزاد، وقال أنتم المُتأكلون لا المتوكلون. أ.هـ. فلا يُتقرب إلى الله بما يُحط القدر، ويورث الذِلة والمهانة والصغار، والله تعالى أعلم وأحكم. وصلى الله وسلم على محمد.

- الموجه الشرعي في القوات المسلحة

Ali5001@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد