Al Jazirah NewsPaper Sunday  22/11/2009 G Issue 13569
الأحد 05 ذو الحجة 1430   العدد  13569
الآن اكتشفتُ نفسي (3-3)
(مع استطرادٍ عن السريالية والتسبيح)
بقلم: أبوعبد الرحمن بن عقيل الظاهري

 

قال أبو عبدالرحمن: أسلفتُ شيئاً مما يغيظني من الوعظ في إذاعة القرآن الكريم، وأذكر ههنا برنامجاً سمعته يوم جمعةٍ مباركة بين الظهر والعصر عن عبادة رائعة هي (التسبيح) لرجل علمٍ فاضل مبارَك.. إلا أنني عزمتُ أن لا أعود إلى سماع مثله؛

ففيه أوَّلاً تقليد محض لأحدِ علماء المسلمين في أمرٍ غيبي، وهو أن الجبال تسَبِّح رَّبها، وأنها مشفقة من تفتُّتها يوم البعث عالمةً بذلك؛ فمثل هذا لو صح لن يقنع به المستمع إلا ببرهان شرعي صحيح الدلالة والثبوت، لا بقول عالم بعينه؛ لأن هذه الدعوى لا تصح إلا بخبر معصوم صحيح صريح، وليس لهذا الأمر الغيبيِّ أيُّ مجالٍ في ظُنونٍ من استنباط بعيد، بل نعلم أن كل شيئ يسبح بحمد ربه، وأن السموات والأرض عندما قال لهما ربهما سبحانه وتعالى :{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}(11) سورة فصلت، وأن الأيدي والأرجل تشهد يوم القيامة، وأن السموات والأرض أشفقتا من حمل الأمانة.. ولا نعلم حقيقة ذلك؛ وإنما عندنا الإيمان بكلام الله على مراد الله، وأن التسبيح كائن حقيقة من الجمادات والعجماوات بالكيفية التي لا يعلمها إلا ربنا، وكفى قول الله سبحانه: {وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44) سورة الإسراء.. وأما أن الجبال عالمة بأنها ستكون كالعهن، وأنها عالمة بأنها ستندكُّ يوم البعث فأمر لا نثبته ولا ننفيه إلا بنص شرعي صحيح صريح؛ فإن وُجِدَ فذلك هو الحق المتَّبع، وإن لم يوجد فلا يجوز الاحتجاج بظنون عالم من العلماء مثلاً، وأريد بظنون الاستنباط البعيدة أن يقول قائلٌ مثلاً: (سخط الهدهد من عبادة الشمس دلالة على اعترافه بالله سبحانه)؛ فهذا حقٌّ، ولكن ليس فيه دلالة على أن الهدهد يعلم أنه سيبعث.. وقل مثل ذلك عن إشفاق السموات والأرض من حمل الأمانة، وشهادة الأعضاء التي لا تكون إلا يوم القيامة وليس فيها دلالة على علم الجوارح الجماد أنها ستبعث.

ورأيت ثانية تكلُّفاً غير مشروع في إحصاء عدد التسبيح في العام بواسطة الآلة الكاتبة!!.. ما هذا، وهل جاء دين الله بمثل هذا التكلف، وما نتيجته؟!.. وإنما يُقْبل الإحصاء من خبر الشرع المطهَّر أو أمره كخبره بأن ليلة القدر خير من ألف شهر.. وما كانت السِّبحة الألفية بدعة، والعد بالحصى بدعة إلا لأن الإحصاء غير مطلوب، وقد أنكر ابن مسعود رضي الله عنه ذلك، ووعظهم ب {سبِّحوا ولن تُحْصوا}، وردَّهم إلى المشروع من العدِّ بالأصابع المستنطقات، وليس ذلك من أجل إحصاء فضائل نجزم بها؛ فكم من مرةٍ نُشْفِق ونخاف من ردِّ أعمالنا وعدم قبولها؛ وإنما الغرض تأدية العدد الذي أَمَرنا به الشرع مثل ثلاث وثلاثين تسبيحة، ومثلها تحميدة، ومثلها تكبيرة، ونختم بالتهليل فتكون مئةً.. ومثلُ إحصاءِ ما ندبنا الله سبحانه وتعالى إليه من ذكرٍ يطرد الشيطان، وهو (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيئ قدير) مئة مرة في الصباح، ومئة مرة في المساء؛ فتَعْقِد عَشْراً بيمينك، ثم تعقد الخُنصر في اليسرى عن عشر، ثم البنصر مثل ذلك، ثم الأوسط مثل ذلك، ثم السبَّابة مثل ذلك، ثم الإبهام مثل ذلك؛ فتنعقد أصابع اليسرى على خمسين، ويبقى خمسون تُحصيها بعدَ عدِّ أصابع اليمنى عشر تهليلات فترفع الخنصر من اليسرى، ثم البنصر... إلخ.. والأصابع أولى؛ لأنها مستنطقات، والغرض اليقين أو الرجحان بحصول العدد الذي نُدِبنا إليه شرعاً.

وتأذَّيت ثالثة من نغمة التَّمعلُم والوثوق العارِم بأن عبادة التسبيح مهملة لم يبحثها على وجهها إلا فلان المعاصر.. مع أنها الشُّغْل الشاغل لعلماء اللغة، وعلماء الورع غير البدعيين، وعلماء التصوف.

وتأذيت رابعة من التَّمعلم في تحقيق أصل اشتقاق التسبيح من الإبعاد على سبيل الجزم؛ وهذا حرَّكني إلى تحقيق هذه المسألة، ولا يتَّسع المقام إلا لنبذة موجزة، وقبل ذلك أُبَيِّن أن التسبيح ليس هو العبادة العجيبة، بل هو خَرَزَة رابعة في سِمْط التحميد والتهليل والتكبير، وهو من فضائل الأعمال، ومكفِّرات الذنوب، ولكن لا شيئ أعجب من الركن الثاني العملي بعد الشهادتين وهو الصلاة، ثم النوافل منها كالتهجد؛ فهي أم العجائب، وهي التي تشمل التسبيح وغيره، وهي على الوجوب، ومن نوافلها ما هو على التأكيد، ومن رغائبها ما هو أفضل من غيره على الإطلاق؛ وإنما وَجَدَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الراحة في الصلاة، وكم من الدراويش معهم سِبْحات ألفية يعدون بها ويُحرِّكون رؤوسهم وهم -لو كانوا غير بدعيين، فما بالك بكونهم بدعيين- من أكسل الناس في التهجد والسنن الرواتب.. إن المبالغات والتكلف ليست من دين الله في شيئ.. وأما الذي أحققه لكم في أمر التسبيح: أنه جاء في القرآن الكريم بالنص على أن يكون التسبيح بحمد ربنا كقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (44) سورة الإسراء فهذا خبر عن شيئين لا شيئ واحدٍ هما التسبيح والتحميد معاً؛ لأن معنى الباء التي في {بِحَمْدَهِ} وهو الذي لا يصح غيره من الوجوه التي ذكرها بعض النحويين: إنما هو للمصاحبة الدالة على الحال.. أي نسبح متلبسين بحمدك، وأنتم تعلمون أن الحمد أمران هما: مدح الله بصفاته وأفعاله المقدَّسة التي فيها أسماؤه؛ لأنها على الكمال المطلق لا يستحقها غيره بينما الأوصاف في المخلوقين إما عارضة وإما محدودة الأثر.. وثاني الأمرين الشكر على نعم الله وآلائه الصادرة عن كماله جل جلاله في صفاته وأفعاله؛ فهم يسبِّحون الله بتنزيهه عن النقائص -وهذا هو التخلية بالخاء المعجمة- مستصحبين حمد ربهم مدحاً وشكراً (وهذا هو التحلية بالحاء المهملة).. والتسبيح من لوازم معنى الحمد؛ لأن الحمد اعتراف بالكمال المطلق الذي لا يُتصَوَّر معه سلبٌ أو إضافة؛ فتضمَّن ذلك التسبيح لزوماً.. وفي غير التعجب بكلمتي (سبحان الله) يأتي التسبيح في الشرع مع الحمد إما عطفاً مثل (سبحان الله، والحمد لله)، وإما بما سلف من معنى مصاحبة التسبيح للتحميد.. وزادت السنة المطهرة الواو مع باء المصاحبة في مثل حديث السجود والركوع في صحيح البخاري وغيره من حديث عائشة رضي الله عنها: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك)، وقد جاءت الواو من تأوُّلِ الرسول -صلى الله عليه وسلم) للآية -كما في نص الحديث- من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} (3) سورة النصر؛ فالمعنى أسبحك يا ربي وأسبح بحمدك، ومآل المعنى أسبحك بنفي النقائص، وأسبحك بالاعتراف بحمدك مدحاً وشكراً.. وأما الوجه الثاني فقد ضعَّفه بحقّ القاضي عياض رحمه الله وقال: (قيل: (وبحمدك) ابتدائي)(1) فضعيف جداً لا يليق بالسياق؛ لأن التنزيه مقدم؛ ولهذا قال ربنا سبحانه: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} (256) سورة البقرة فقدَّم التخلية بالمعجمة على التحلية بالمهملة. ورأى الواعظ حفظه الله أن معنى التسبيح بحمد الله أن يكون التسبيح بما شرعه الله من الحمد؛ فأخذ بأبطل الأقوال؛ لأن التسبيح لا يُغني عن الحمد لثلاثة براهين:

أولها: الاختلاف في المعنى؛ فالتسبيح تنزيه لله بنفي النقائص؛ ولهذا جاء في القرآن مثل: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ }((180 سورة الصافات؛ فنفى سبحانه وتعالى ما ادَّعاه الكفار من نقصٍ بالتسبيح، ثم جاء مقتضى التسبيح في مثل قوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ}(255) سورة البقرة، و{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} (64) سورة مريم، وقوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ}(58) سورة الفرقان.. والحمد إثبات كمالٍ كما في قوله تعالى في أكثر من موضع: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}(137) سورة البقرة، و {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ } (11) سورة الشورى، و{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) سورة الحديد.

وثانيها: أنه جاء التسبيح وحده، ثم عُطِف عليه الحمدُ في مثل الحديث الصحيح: (سبحان الله، والحمد لله).

وثالثها: أن التسبيح والحمد جاءا مقترنين؛ فحُمِل الحمدُ على المعهود، وهو أن يقترن التحميد بالتسبيح؛ فهما مأمور بهما معاً.. ومع أن التسبيح من لوازم التحميد إلا أن التسبيح مقدَّم؛ لأن هناك كمالاتٍ في عُرْف البشر ولم ترد توقيفاً كالمفكِّر والعاقل والشجاع ومهندس الكون؛ فأنت تردُّ اللفظ بلا تردُّدٍ، ثم تنفي من المعاني ما لا يليق بكمال الله الثابت بأسماء الحمد التوقيفية، فالتسبيح مقدَّم اعتقاداً وقولاً، وهو فكراً من لوازم الحمد، والحمد التوقيفي هو مرجع التنزيه.. وجاء التسبيح في القرآن معلَّلاً بأنه من أجل الله في مثل قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}(1) سورة الحديد، و{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} (44) سورة الإسراء؛ فالتسبيح له سبحانه، ومن أجله.

وجاء في القرآن الكريم الكريم إضافة التسبيح إلى الله سبحانه لا إلى اسمه كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}(سورة الفتح 8-9)؛ فهذا نفي لِما لا يجوز في حقِّه من الصفات أصلاً كالنسيان.. وجاء التسبيح باسمه سبحانه وتعالى في مثل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} (1) سورة الأعلى.. فهذا تنزيه الاسم الثابت لله من النقص، ومَن لم يفعل فقد ألحد في أسماء الله تعالى بمقتضى قوله تعالى: {وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ} (180) سورة الأعراف؛ فمن شبَّهها بصفات مخلوق، أو قدَّرها وحدَّدها، أو عطَّلها فقد ألحد فيها، وهكذا من نقص منها كقول المعتزلة عن علم الله: (لا يعلم الله الجزئيات) تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. والأكثر في الشرع اقتران الحمد بالتسبيح لله سبحانه بإطلاق.. وأما (سبحان) فيأتي الكلام عنها إن شاء الله.. وزادت السنة المطهرة (سُبُّوحٌ) بضم السين والباء المشدَّدة المضمومة، ويأتي الكلام عنها إن شاء الله.

وأما اشتقاق التسبيح فاختار جمهور اللغويين أنه مأخوذ من التَّبْعيد، وأصَّل ذلك الإمامُ الراغب الأصفهاني رحمه الله بكلام لا يصح لغةً ولا شرعاً، فقال: السبح المرُّ السريع في الماء أو في الهواء.. ثم قال: (والتسبيح تنزيه الله تعالى.. وأصله المر السريع في عبادة الله)(2).

وأما الإمام ابن فارس رحمه الله (وهو قبل الراغب زمناً) فقد جعل للتسبيح أصلين هما: العبادة، والعوم في الماء(3)، وهذه الثنائية صحيحة لأمرٍ سأذكره إن شاء الله، وإنما الخطأ في ذكره (العوم).

قال أبوعبدالرحمن: وبعد هذه الجولة أحقق لكم المسألة بعدد من الوقفات:

الوقفة الأولى: المحقَّق عندي بيقين كالشمس أن التسبيح والتقديس كلمات شرعية توقيفيَّة عند أهل الأديان؛ فنَقلتْ لغةُ العرب معانيهما من اللغة التوقيفية؛ فأما التقديس فإذا تصفحت معانيها وجدت أصلها شرعياً توقيفياً، ثم وسَّع العرب المادة بالمجاز(4)، وقد لاب بعض هذا ببال الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى فقال: (وأظنه من الكلام الشرعي الإسلامي)(5)، ولو قال: (من كلام شرائع الله التوقيفية)؛ لكان أصوب؛ لأنه ليس للشرع الإسلامي معانٍ ليستْ مأخوذة من لغة العرب؛ فهي: إما لغة العرب نفسها مثل قام وعلم، وإما اصطلاح شرعي من معاني لغة العرب كالحج لخصوص قصدٍ ذي هيئات مُعَيَّنة.. وأما التسبيح فتجد عند النصارى السبح صلوات للقديسين والعذراء، وعيد السبح أحد الشعانين(6)، وصلاة السَّحَر(7)، وتصدق أيضاً على تراتيلهم في الكنيسة.

والوقفة الثانية: أن أصل سبح في لغة العرب مرور الإنسان على الماء ببطنه أو ظهره، أو على جنبه، وهو مشتق من معاني السبح التوقيفية في الشرائع بمعنى التنزيه؛ لأن الإنسان في عرف العقلاء لا يرتاض بالسباحة إلا في ماء نظيف نزيه.

والوقفة الثالثة: لا تصحُّ دعوى أن السبح مَرٌّ سريع على الماء؛ وإنما هو لمطلقِ المرور ومنهم غير المسرع لعدم القدرة، أو لعدم القصد مع وجود القدرة.

والوقفة الرابعة: جاء معنى السرعة مثل (فرس سابح) -وفي السرعة معنى البعد- على التشبيه بهيئة السابح في الهواء لا على التشبيه بسرعته؛ فهو مشبَّه بمن يسبح في الهواء، والسبح في الهواء مشبَّه بالسبح في الماء؛ فكأن الفرس سابح في الهواء لا يلمس الأرض، بل أرضه الفضاء.. كما أن السابح تكون أرضه الماء؛ وإنما جاء معنى السرعة لأن هذه الحال مرصودة من أقصى سرعة للفرس.

والوقفة الخامسة: السبح في الهواء على التشبيه بالسبح في الماء، وهو لا يقتضي السرعة، وقد حقَّقْتُ في كتابي (من أحكام الديانة) الطبعة الأولى الضخمة أن أول سورة النازعات كلَّه عن الملائكة الكرام حسب مدى سرعتهم؛ فالسابحات من الملائكة عليهم السلام هم الدرجة الثالثة في السرعة، وفوقهم السابقات، وفوقهم المدبرات كجبريل عليه السلام ومَن أهلكوا قوم لوط بأمر الله لهم.

والوقفة السادسة: اتَّضح أن البعد معنى مجازي في سَبَحَ لا أصلٌ، ثم إنه لا يصح وصف العبادة بالمرِّ السريع إلا ما جاء استثناءً بنص شرعي، والأصل في العبادات الأناة، والأجْرُ على قدر النَّصَب (التعب).

والوقفة السابعة: لا نستطيع تحديد أصل الاشتقاق للتسبيح العِبادي ما دمنا لا نعرف أصل اشتقاق معاني المادة التي جاءت إلى لغة العرب من كلمة شرعية توقيفية متوارثة، ولكن بالتَّتَبُع لمعنى التسبيح والتقديس في الشرع وجدنا التسبيحَ أعمَّ؛ لكونه لنفي كل نقصٍ وعيب بما فيه ما يُخالف الطُّهر.. وهو أخص من جهة اقترانه في مواضع كثيرة بالتعجب.. والتقديس لخصوص تنزيه، وهو تنزيهه سبحاته عما يخالف الطهارة؛ ولهذا لما قال الصحابة رضوان الله عليهم: (إن الرجل يحب أن يكون ثوبه نظيفاً): قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال)؛ فدخلت النظافة في الجمال، وهي من عناصره في علم الجمال؛ لأن الدنس والقذارة قبح.. وسبحات ربنا جل جلال أنوار وجهه الكريم، وذلك غاية الطهر؛ لأن النور نصوع؛ ولهذا اشتُقَّت بالجذر الثُّنائي -الواو والضاد- الوضاءةُ وفِعْلها وضُؤَ من الوضوء؛ لأنه نور وضياء يظهر أثره دنياً في العُبَّاد، وتتجلَّى آثار السجود ضياءً يوم القيامة بالنصوص الشرعية الصحيحة؛ فأصبحت (وَضُؤَ) بمعنى (أضاء) بالجِذْر الثنائي، ومن معاني خصوص التطهير نفي الولد والوالد والزوجة عنه سبحانه، وتطهيره سبحانه من دنس كفرة أهل الحلول كقول ملحدهم:

وكلُّ كلامٍ في الوجود كلامُهُ

سواء علينا نَثْرُه ونظامُهُ

فجعلوا مثلَ نبحِ الكلاب ونهيق الحمير كلامَه تقدَّس ربي وجلَّ وعلا، وقبح الله أهل الحلول والاتحاد وخيَّبهم.

والوقفة الثامنة: لا صحة لتقييد الإمام ابن فارس رحمه الله تعالى السبح بالعَوْم في الماء، بل هو لِمُرور العاقل على سطح الماء على ظهره أو بطنه أو جنبه، وأما العوم لما يطفو على السطح فهو لِمَنْ لا يعقل، وهذا عليه جمهور اللغويين والمفسرين المتأخرين لا سيما تفسير البيضاوي وحواشيه وحواشي حواشيه؛ ولهذا خطَّأوا الفيروزآبادي رحمهم الله تعالى في توحيده بين سبح وعام؛ ولهذا أيضاً جعل العربُ سَيْرَ الإبل التي لا تعقل عَوْماً ، والعُوْمة -بضم العين المهملة وسكون الواو- دويبة لا تعقل تسبح في الماء.. وهذا هو الصحيح في الاشتقاق بجِذْرَي العين المهملة والميم في عَمِيَ وعمهِ وعَام، ووُفِّقَتْ عاميةُ نجد في وصف من لا يَفقه من الناس بكلمة (عُوْمة)؛ فهو يخلط ويملط على غير هدى.

والوقفة التاسعة: القُدُّوس بضم القاف والدال المهملة المضمومة المشدَّدة من أسماء الله الحسنى بيقين كما في سورة الحشر، وهي اسم لبلوغ الغاية في الطهر، والسُّبُّوح بالسين المهملة المشدَّدة المضمومة والباء الموحدة من تحت المشدَّدة المضمومة كذلك لبلوغ الغاية في النزاهة، وحديث (سُبُّوحٌ قُدُّوس رب الملائكة والروح) مشعر بذلك؛ لأن السبوح والقدوس صفة للرب سبحانه.. ومن ضبط حاء سبوح وسين قدوس بغير تنوين فقد أخطأ، بل هو بالتنوين، وهكذا من جعله منصوباً منوَّناً؛ لأنه في سياق وصفٍ لا إضافة.. ولم أجد اسماً عُبِّدَ للسبُّوح، ولم أجدها في الدعاء.. وأما حديث (سبوحٌ قدوسٌ) فهو اعترافٌ عقيدةً بذلك وإن جحده سبحانه الجاحدون؛ فلعلها من أسماء الله الحسنى التي نَدَّت عن بعض المحصين لأسمائه سبحانه؛ فإن الله سبحانه جعل الوعد بالجنة لمن أحصى تسعة وتسعين من أسماء الله الحسنى اختباراً لدرجات الراسخين في العلم.. وأما (سبحان الملك القدوس) فهي إقرار باللسان، ونحن إنما نسبِّح ربنا سبحانه بفعل ألسنتنا وقلوبنا باعترافٍ مُضْمرٍ أو مُظهرٍ باللسان، ولا فعلَ لنا في تنزيه الغنيِّ الحميد جل جلاله؛ فهو الذي يهب النزاهة لمن يشاء، ولا تملك المخلوقات إلا الاعتراف فقط.

والوقفة العاشرة: حكى جمهورٌ من اللغويين جوازَ فتح السين المشدَّدة هكذا (السَّبوح)، ولم يُورِدُوا دليلاً على ذلك، وإنَّما وجدوا الضم قليلاً على وزن (فُعُّول) بضم الفاء وتشديد العين المهملة المضمومة مُهملاً.. وبتتبعي ما ورد في الصيغتين وجدت الفتح يعني بلوغ الغاية في الفعل، ولهذا جاء لما هو آلةٌ مثل السَّفُّود والتَّنُّور والشَّبُّور للبوق الذي هو آلة غناء.. وأما الضم فلم يرد إلا للسبوح القدوس، فهو لصفات الفاعل سبحانه، ولم يرد على الضم (على التحقيق) غير سبوح وقدوح صفةً للرب سبحانه؛ فهو جلَّ جلاله المتميِّز بذلك الكمال في صفاته وأفعاله.. ولما استُعْمِلَتْ المبالغةُ في العرف الأدبي المتأخِّر عن لغة السليقة للادِّعاء والتهويل كان الصواب في حق الله سبحانه (بلوغ الغاية) لا (المبالغة).. والقول بأنه لم يرد على وزن (فُعُّول) بضم الفاء والعين المهملة المشدَّدة غير سبوح وقدوس هو الصحيح، وإليه ذهب القاضي عياض رحمه الله تعالى(8)، وأما (الذُّرُّوح) التي ذكرها أبوإبراهيم الفارابي رحمه الله تعالى(9) فهو حشرة في حجم الذباب، وأصله فتح الذال المعجمة المشدَّدة، وإنما جاء الضم في بعض اللهجات لمراعاة أمرين: أولهما أن المفرد مضموم الحرف الأول مثل ذُرَحْرَح، وثانيهما وجود النون في بعض اللهجات مثل (ذُرنوحة)؛ فهو مفرد ذرانيح في قولك (الذُّروح)، ولم يُقصد به بلوغ الغاية في الصيغة من غير إرادة الجمع، وأصلها (ذُرنوح) على وزن (فُعْنُول)؛ فحُوِّلت إلى (فُعُّول) تخفيفاً.. وعند العامة وصف الصبي بالذرنوح؛ لدقة حركاته، والذرنوح عندهم أيضاً كحلٌ عُنَّابي للاستشفاء به لا للزينة يُسَمُّونه حُمْرَة.

والوقفة الحادية عشرة: كلمة (سبحان) على وزن (فُعْلان) بضمِّ الفاء وسكون العين المهملة تأتي في لغة العرب اسماً جامداً مثل ثُعبان وبستان وعثمان وركبان جمع راكب، وأكثر ما تُستعمل جمعاً، ولما كان السبحان اسماً للتسبيح لا جمعاً له دل على أنه لبلوغ الغاية في التسبيح ما دامت معاني الصيغة في جمهورها للجمع، وقد أُنيبَ مناب المصدر، وهذا جائز؛ لكون الصيغة في لغة النحاة مشتقة، وإنما نابت مناب المصدر لَمَّا أريد معنى بُلوغ الغاية، وأما المصدر حقيقة فهو التسبيح (سَبَّح تسبيحاً).. مصدر للفعل الرباعي (سبَّح) بتشديد الباء.

والوقفة الثانية عشرة -وهي الأخيرة-: أخطأ بعضُ النَّقَلة على سيبويه في زعمه أن سيبويه لم يذكر غير الفتح في سَبُّوح قَدُّوس، والصواب أنه ذكر الوجهين؛ فقال: (ومن العرب مَن يرفع فيقول: سُبُّوح قُدُّوس)(10)، وذلك بعد أسطر من قوله: (وأما سَبُّوحاً قَدُّوساً ربَّ الملائكة والروح) فليس بمنزلة (سبحان الله) (يعني في العمل عملَ المصدر خلاف الاسم المجرَّد للاسمية)؛ لأن السَّبُّوح والقَدُّوس اسم، ولكنه على قوله (أي على إضمار مقدر في قولهم: ذكرتُ سَبُّوحاً).. وقد ضبطها قلمياً لا تنصيصاً في هذا الموضع محقِّق الكتاب الأستاذ عبدالسلام محمد هارون رحمه الله بضم سين سبوح وقاف قدوس.. وهذا خطأ من وجوه:

أولها أنهما جاءا وصفاً ل(ربَّ) بفتح الباء المشددة غير مضافين إليها، وثانيها أن كلام سيبويه لَحَنَ إلى أنهم ظَنُّوها عاملةً عملَ المصدرِ (تسبيحاً) وهذا يقتضي الفتح؛ فبيَّن لهم سيبويه أنها اسم مجرَّد.. وما كذب الإمام سيبويه رحمه الله في حكاية الرفع والنصب عن العرب إذْ قال: (وكل هذا على ما سمعنا من العرب تتكلم به رفعاً ونصباً)(11).. إلا أن المسموع بالفتح خطأ مبنيٌّ على توهُّم بعض العرب أن سَبُّوحاً بفتح السين بمنزلة (تسبيحاً) و (سبحانَ).. وثالثها أن سيبويه ذكر بعد ذلك الضم، فقال: (ومن العرب مَن يرفع، فيقول: سُبُّوحٌ) يعني ضمَّ السين لا الحاء؛ لأن آخر الكلمة ليس محل إشكال؛ فهو خاضع للإعراب؛ فدلَّ ذلك على أن (سَبُّوحاً) التي ذكرها أوَّلاً بفتح السين.. والوجهان اللذان حكاهما عن العرب لا يُعقل أن يكون المراد بهما آخر الكلمة؛ لأن المرجع في ذلك للإعراب النحوي لا لنقل البُنْية عن العرب. قال أبوعبدالرحمن: وأسلفت في حديثي السابق القول عن سريالية الحلم، وههنا أستدرك القول بأنه(12) لا قيمة لإخبار شخص ما بوقائع حلمه في النوم، ولا بوقائع حلمه في اليقظة، ولا بتعبيره المباشر بأنه يحلم بكذا بمعنى يتمناه؛ فقول معالي الدكتور غازي القصيبي حفظه الله - الذي عجزتُ أن أُخرجه من دائرة صمته إلا أن أَهْجُوَه بقصيدة رنانة فوق ما يُبدع هو!! - في قوله الذي سأسوقه إن شاء الله بعد مقدمة فاطمة الرومي؛ إذ قالت: (الحلم واحة خضراء في صحراء الحياة اللاهثة؛ فماذا عسانا نجد في تلك الواحة، وماذا عساهم يغرسون في بستان أحلامهم ؟؟.. هذا ما سنعرفه في بابنا آفاق الحلم الذي نلتقي من خلاله مع عدد من المبدعين والمبدعات؛ لنرافقهم (في) رحلة حالمة إلى مدائن الحلم الجميل)، ثم يأتي كلام معالي الدكتور بعد كل سؤال لفاطمة هكذا:

ما الذي يعنيه لك الحلم؟:

الحلم هو انتصار الخيال المبدع الجميل على الواقع الغبي الكئيب.

بماذا تحلم؟:

*.. بورود أكثر شذى.. بآفاق لم أرها من قبل.. بتجرية لا تشبه التجارب.

يصف الشاعر حلمه بقوله: (يا حلمي المر العذب؛ فما نكهة الأحلام لديك؟:

لها ألف نكهة ونكهة ونكهة!. ما الذي تفعله لحظة أن يغتال حلمك؟:

من طبيعة الأحلام أنها غير قابلة للاغتيال؛ ولهذا يقف أعظم الطغاة والجلادين أمام الأحلام يائسين!.

أحلام طفولتك ماذا تحقق منها؟:

كان لي في طفولتي ألف حلم لم أعد أذكر معظمها، وتَحقَّق حلم واحد كبير: أن أستطيع أن أقرأ وأكتب.

حلم ما زال يداعب مخيلتك؟:

أن أصبح إنساناً أفضل، بعاطفة أرق، وبقلب أكثر تسامياً، بعقل أكثر انفتاحاً.

لو عدتَ صغيراً: ترى هل ستحلم بأحلامك نفسها؟:

أرجعيني إلى الطفولة وسوف أخبرك.. أليس هذا حلماً جميلاً؟!.

أهمية الأحلام أين تكمن؟:

تكمن في أنها لصيقة بالحياة ما دامت هناك أحلام فهناك حياة، وعندما تلفظ الأحلام أنفاسها الأخيرة تتبعها الحياة.

بأي الألوان ترسم لوحة أحلامك؟:

بألوان قوس قزح، وبألوان الظلام الدامس، وبألوان الفجر المشرق.. أعني بكل لون يمكن أن نحلم بوجوده.

متى تتخلى عن حلمك؟:

لا يمكن أن أتخلى عن حلمي.. هذا التوأم يرفض الانفصال!.

لماذا يستبيح الآخرون أحلامنا؟:

قد يحاولون.. ولكنهم لا ينجحون.. ولن ينجحوا.

لماذا نجتهد أحياناً في تفسير أحلام مناماتنا؟:

التفسير في أعمق أعماقنا لا في مفسري القنوات الفضائية.. جعل الله أحلامنا خفيفة على أجفانهم)(13).

قال أبوعبدالرحمن: هذه أخبار بأمانٍ مثالية كريمة، وبأمانٍ جماليَّة، ولكن ليس هذا هو الحُلْم الإبداعي.. الحلم الإبداعي مثل قصة (الحيَّة من الحياة) لما كان أبوعبدالرحمن يعاني أموراً مؤلمة أشدُّها سقوطُ أسنانه حتى كان يسيل كل ما يتناوله بشدقيه، وتخرج حروف الهجاء من مخرج واحد، ويتحاشى ما أمكن الأكل مع الكبراء؛ لأن الشفة السُّفْلى تُجاور أرنبة أنفه، ولحيته تجاور أهداب عينيه؛ فابتدع وقائع خيالية، وجعل بطل القصة الربيع بن خريف القناعَ الذي تقمَّص شخصيته؛ فكانت تلك الأمانيُّ الخياليةُ (وأكْثَرُها همومٌ تساوره دائماً)، ولكنه لم يسرد ما يحلم به؛ وإنما جعل عناصر الحلم أمشاجاً لبناء وقائع إبداعية صنعها الخيال المُضْنَى.. والحلم الإبداعي يظهر على صورٍ، ولكن أفضلها ما كان أسطورةً يتصورها العقل، ولا يقوى على احتمالها واقعاً.. ألا ترى أن (السندباد) شخصيتان (السندباد الحمَّال الفقير) و(السندباد البحري) ذو الأساطير العجائبية السبع التي يقصها بعد كل مغامرة بَحْرية على السندباد الحمَّال الفقير، وكلُّ رحلة يأتي فيها سندباد البحر بما لا يُصدِّقه عقلٌ من الثراء الفاحش بالبضائع والأموال؛ فترك السندباد الحمال المسكين وظيفته، واستغنى عنها بمنادمة السندباد البحري يتلهَّف إلى أخبار كل رحلة، ولم ينل من نديمه مالاً ولا زاداً ولا كساءً ولا سكناً ولا مركباً.. إن البطل واحد هو السندباد الحمال الشخصية الأصلية، والسندباد البحري هو الصورة والقِناع !!.. فإن سألتَ عن البرهان قلتُ: ليس عند سندباد البحر غير أساطير يتخيَّلها ويعيشها، وهو نفسه السندباد الحمَّال الذي استغنى بلذة الاستماع لأماني الخيال عن وظيفته التي هي مصدر رزقه، فتعانق الأصل والصورة على الإفلاس إلا من الأحلام!!.. وحالة سندباد البحر قبل الثراء بأحلام الخيال هي نفسها واقع السندباد الحمال، كما أن مآلهما واحد؛ فكلاهما غنيٌّ بأحلام الأساطير ابتداعاً واستماعاً.. والفرق بين (السندباد) و (الحية من الحياة) أن بطل الأخيرة واحد هو (الربيع بن خريف) المتحدث باسم كاتب النص، وكاتب السندباد جعل قناعه شخصيَّتين يكمِّل بعضهما بعضاً، وكلاهما متحدث باسم كاتب النص؛ فسندباد البحر يعيش إفلاسه بأمانيَّ اخترعها خياله، والسندباد الحمَّال يعيش إفلاسه في تلذُّذه بسماع ما لم يرفع له رأساً من الأماني الخيالية؛ فكان ذلك العِوَض عن وظيفته التي هي مصدر رزقه.

وعناصر الأحلام -مناماً ويقظة التي تكون أمشاجاً للعمل الإبداعي- لابد من تغذيتها بمقومات جمالية كالرمز مثل رمز الحية في حلم النوم، ورمز الشخصيات، فهو ابن خريف سابق، وهو ربيع بالحلم، وهكذا بقية الشخصيات كالنماء والخصب.. وبإيجاز فكل الأساطير التي يسمونها (عجائبيات) تكون أدباً سريالياً إذا كانت حال كاتب النص وحال بطل الأسطورة واحدة، وليست أصول الحلم السريالية اللامعقول (غير المعقول) بإطلاق، بل يكون معقولاً بتصوُّر الذهن، وغير معقولٍ احتمالُه في الواقع.. أما اللامعقول في التصور فعبث مجرد كالحماقة التي ارتكبها تقليداً توفيقُ الحكيم في مسرحيته (يا طالع الشجرة) ولا سيما الأغنية التي فيها:

يا طالع الشجرة

هات لي معاك بقرة

تُحلب وتسقيني

بالملعقة الصيني

ولم يستحِ توفيق الحكيم من تسويغ هذا العبث التقليدي في مقدمته للمسرحية؛ فهو يعلن بأن المغنواتي الشعبي العربي أسبق من الأوربيين في العبث ؟!.. فهنيئاً للحكيم هذا السبق مع أنه افتراءٌ على أبناء الفطرة من مغنينا الشعبيين في بلاد العرب.. إن هذا العبث يبصق عليه الإحساس الجمالي؛ لأن أعْمق حس جمالي لأرقى فئة مثقفة لا يندرج في قيمة الجمال حتى يكون له تزكية من العقل في (قيمة الحق).

قال أبوعبدالرحمن: ورأيت محمد قطب (وهو غير الشيخ محمد) لم يستوعب حقيقة الرؤى والأحلام في الإبداع الأدبي؛ فقد أدرج (أولاد حارتنا) لنجيب محفوظ في كتابه (الرؤى والأحلام- قراءة في نصوص روائية) الذي صدر عام 1995م عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بالقاهرة.. وصادف ذلك أن (أولاد حارتنا) من قراءتي الأولى في هذا الفن العربي - وإن كان هيامي بالروايات الرومانسية الخواجية المعرَّبة- ، والرواية التي قرأتها ليس فيها أدنى وشيجة بفاعلية الأحلام في الإبداع، بل هي من الروايات الواقعية الأقرب لمفهوم القصة، صوَّر فيها زملاء له في الدراسة قبل تبدُّل الأحوال بعد ثورة عام 1953م (أي حين تسلم عبدالناصر المقاليد).. وأما ما أورده محمد قطب من نقد لأولاد حارتنا فإنما يتعلق بعفن إلحادي اقترفه نجيب محفوظ في حق الله جل جلاله وأنبيائه ورسله عليهم الصلاة والسلام، وما قصةُ التلميعِ ونوبل إلا من أجل هذا.. ولكن هذا العفَنَ الكافرَ لا علاقة له بتأثير الأحلام والرؤى في الإبداع، ولا يُغَيِّر شيئاً من الواقعية الأدبية لأشخاص متخيَّلين ولذوي سلوك مختلف؛ فإن لم يقع ذلك فيقع مثله، وعبثُ ضلالاتِ جيلِ النهضة الحديثة الأوائل كطه حسين وأبناء عصره أو من سبقوه قليلاً على خِسَّته أرحم من تدفُّق العفن الحداثي الذي ترعرع في ظلال ثورة 1953م، وكفى بنجيب محفوظ رائداً للإبداع الإلحادي.. أما الإباحية التي أخْدَجَتْ بها روز اليوسف منذ إحسان عبدالقدوس فهي فسق شنيع دون الكفر ما لم يكن عقيدة، فهو يُسَمَّى خلاعة؛ فإذا كان استباحة عقيدية(14) فهو كفر، وهذا هو الماثل في الفلسفة الإباحية؛ لأنها عقيدة كما في كل فلسفات الحق الطبيعي منذ (روسو) في العقد الاجتماعي إلى (اسبينوزا) في رسالة اللاهوت، وكلاهما مُعرَّبٌ.. كما أنه لم يكن لريادة (إحسان) ديمومة القبول، وإنما نشط لذلك حداثيون مُلَغِّمون.

وأما ما كتبه الدكتور فايز الداية في كتابه (جماليات الأسلوب-الصورة الفنية العربية) عن السندباد في الشعر المعاصر فهو كما تفضَّل الكاتب مجرَّد رمز، ولكنه يُثري المادة اللغوية، وليس الشاعر الرامز بالسندباد مبدعاً وقائعَ خيالية اخترعها خياله من أحلامه؛ وإنما الإبداع من حظ كاتب نص السندباد، والشاعر المعاصر أثرى لغته بالرمز من إبداع سابق، وهو إبداع نسج من الأحلام عوالمَ يحتملها الذهن.

قال أبوعبدالرحمن: إن كنتُ قَدَرْتُ (فتح الدال المهملة هو أصح الوجوه للفعل الذي بمعنى استطاع) على إضحاككم وترقيق قلوبكم معاً، وعلى إتخامكم علمياً وإطرابكم أدبياً: فادْعُوا لي ولكم بأن نكون مِمَّن طال عمرُه وحَسُن عملُه، والله المستعان، وإلى لقاء إن شاء الله مع السريالية.

الهوامش

(1) انظر مشارق الأنوار على صحاح الآثار 1 - 200 - المكتبة العتيقة بتنوس، دار التراث بالقاهرة.

(2) مفردات القرآن ص392 - دار القلم بدمشق- الطبعة الثالثة عام 1423هـ.

(3) مقاييس اللغة ص380 - دار إحياء التراث العربي ببيروت- طبعتهم الأولى عام 1422هـ.

(4) قال أبوعبدالرحمن: فيكون على هذا المعنى الجامع في لغة العرب الذي هو الأصل منقولاً من معنى أصليٍّ توقيفي نجهله من جهة كونه أصل الاشتقاق المعنوي، وانظر معاني المادة من القاف والدال والسين المهملتين عند النصارى في تكملة المعاجم العربية 8 - 197- 198.

(5) مقاييس اللغة ص847.

(6) انظر تكلمة المعاجم العربية لرينهارت دوزي بترجمة الدكتور محمد سليم النُّعيمي 6 - 19 - الطبعة الأولى - ط. دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد.

(7) المصدر السابق ص20.

(8) انظر مشارق الأنوار 2 - 203.

(9) انظر ديوان الأدب 1 - 338. (10) الكتاب 1 - 327 ط. م المدني -نشر الخانجي- تصدير دار الكتب العلمية (السَّروقة) ببيروت عام 1408هـ.

(11) المصدر السابق.

(12) قال أبوعبدالرحمن: لا توضع هنا النقطتان الرأسيتان علامةً لمجيئ مقول القول؛ لأنه ليس في السياق نَقْلٌ حرفيٌّ بالتنصيص عن قائل، وإنما هو حكاية للمعنى؛ فثمة فرق بين (قال: كذا وكذا) وبين (قال بكذا وكذا) فالأول تنصيص فتوضع علامة مقول القول، والثاني حكاية معنى قول فلا توضع العلامة.

(13) المجلة العربية - ربيع الآخر عام 1424هـ ص116.

(14) قال أبوعبدالرحمن: هذا هو الصواب حسب الاستقراء اللغوي السماعي لا التقعيد النحوي الاجتهادي.. و(العقدي) بدون ياء قبل الدال المهملة يبقى خاصاً لما وُجِد أو سيوجد من اسم أو صفة من العقد بالتحريك.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد