إن نعم الله علينا كثيرة لا تعد ولا تحصى (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا)، (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ)، وأجلّ هذه النعم، وأعظمها الهداية لدين الإسلام، والتوفيق للطاعة، والإعانة على أدائها، والقيام بها.ومن أجلّ الطاعات، وأفضل القربات، حج بيت الله الحرام، حيث يزور المسلم بيت الله العتيق حاجاً ومعتمراً، ويتنقل بين تلك المشاعر المقدسة، لأداء تلك المناسك العظيمة، راجياً ما عند الله من الرحمة والرضوان، والعفو عما سلف وكان من الذنوب والعصيان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه).
أما من لم يتيسر له الحج، فقد وفق - بإذن الله - للاجتهاد في أيام العشر الفاضلة - وهي عشر ذي الحجة - ، وتعرض لنفحات المولى - جل وعلا - في أيامها المباركة، حيث الصلاة والصيام، والتكبير وتلاوة القرآن، وتذكير الإخوان، وبذل الصدقات، وغيرها.
إنه ليس شيء أحب إلى المؤمن الصادق من أن يبذل ما يملك، ويترك ما يحب، من أجل نيل رضا ربه عنه، ومغفرته ذنوبه، ومحو زلاته، وإقالة عثراته، لذا فقد ترك الزوجة والأولاد، وهجر المال والدار، متجشماً الصعاب، متحملاً المتاعب في سبيل الوصول إلى أشرف بقعة، وأطهر مكان، ليتنقل بين شعائرها بقلب منيب وجل خائف، أمله في الله لا ينقطع، ورجاؤه في رحمة أرحم الراحمين لا يخيب.
ومع هذا البذل والعطاء وتلبية النداء، فإن الخسارة العظيمة والفادحة الكبرى، لمن رجع من حجه على غير طائل، وخرج من حجه خائباً محروماً، لم يظفر من حجه إلا الذهاب والإياب، والجهد والمشقة، والنصب والتعب والعناء، نعوذ بالله من الخذلان.
إن الخير كل الخير، والطهر كل الطهر، أن يحج أحدنا وترى آثار حجه عليه بعد الانتهاء منه، وذلك بلزوم العهد القديم، والمسلك القويم، الذي كان عليه في الحج، وليكن خروجنا من هذه الطاعات (الحج) خروج الغانم الكاسب المغتبط بما وفقه الله لطاعته، ولزوم عهده، فالمؤمن الصادق لا يخرج من طاعة إلا ويدخل في أخرى، محياه ومماته لله رب العالمين.
علامة الحج المبرور:
قال الحسن البصري - رحمه الله - : (آية الحج المبرور: أن يرجع زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة)، وإن من علامة قبول الطاعة، أن توصل بالطاعة بعدها، وعلامة ردها أن توصل بمعصية، فما أوحش ذل المعصية بعد عز الطاعة، ولذلك كان الإمام أحمد - رحمه الله - يقول: (اللهم أعزني بطاعتك ولا تذلني بمعصيتك)،وكان عامة دعاء إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - : (اللهم انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة).
ضعف النفس عند المداومة على الطاعات وعلاجه:
وقد تضعف النفس في الاستمرار على العمل الصالح، والمداومة عليه، ولمعالجة هذا الداء لابد من العزيمة الصادقة على لزوم العمل، والمداومة عليه، أياً كانت الظروف والأحوال، وهذا يستلزم نبذ العجز والكسل والدعة والخمول، وإذا كان الإنسان يكره الموت الذي فيه انقطاع حياته، ويكره الهرم الذي فيه انهيار شبابه وقوته، ألا يدرك أن هناك أمراً لربما كان أشد منهما، وهو العجز والكسل، وضعف الهمة والتراخي والتسويف وركوب بحر التمني، مما يقعده عن كل عمل صالح، ويثبطه عن كل بر وطاعة.
آثار المداومة على الأعمال الصالحة:
وإن للمداومة على الأعمال الصالحة آثاراً حميدة منها: دوام اتصال القلب بخالقه وبارئه، مما يعطيه قوة وثباتاً، وتعلقاً بالله عز وجل، وتوكلاً عليه، واندفاعاً إلى طاعته، ومن ثم يكفيه همه، قال تعالى: (َمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، ومن الآثار كذلك: تعاهد النفس عن الغفلة، وترويضها على لزوم الخيرات، حتى تسهل عليها فلا تكاد تنفك عنها رغبة فيها، وقد قيل: (نفسك إن لم تشغلها بالطاعة، شغلتك بالمعصية).
ومن آثار المداومة على العمل الصالح: أنه سبب لمحبة الله تعالى عبده وولايته له، وذلك فضل عظيم، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)، والمراد بالأعمال هنا الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات.
وقال النووي: (وفيه الحث على المداومة على العمل، وأن قليله الدائم خير من كثير ينقطع، وإنما كان القليل الدائم خيراً من الكثير المنقطع، لأن بدوام القليل تدوم الطاعة والذكر والمراقبة والنية والإخلاص والإقبال على الخالق سبحانه وتعالى، ويثمر القليل الدائم بحيث يزيد على الكثير المنقطع أضعافاً كثيرة).ولأن المديم للعمل يلازم الخدمة، فيكثر التردد إلى باب الطاعة كل وقت، ليجازى بالبر لكثرة تردده، فليس هو كمن لازم الخدمة مثلاً ثم انقطع، ولأن العامل إذا ترك العمل صار كالمعرض بعد الوصل فيتعرض للذم والجفاء.
ومن آثار المداومة على العمل الصالح: أنها سبب لحسن الختام، لأن المؤمن لا يزال يجاهد نفسه بفعل الطاعات وترك المحرمات، حتى يقوى عزمه، ويستقيم حاله، ويستمر على العمل الصالح حتى الممات (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء).
* الأستاذ المشارك بكلية المعلمين بجامعة الملك سعود بالرياض