Al Jazirah NewsPaper Monday  21/12/2009 G Issue 13598
الأثنين 04 محرم 1431   العدد  13598
شكراً لبريطانيا الآن!
د. عبدالرحمن الحبيب

 

نعم شكراً للقضاء البريطاني، وإن كانت بريطانيا قبل أكثر من تسعين عاماً هي التي وعدت اليهود بدولة في فلسطين، وهي الحاضنة آنذاك لمشروع الدولة المصطنعة، لكن كما قال تشرشل: لو فتحنا معركة بين الماضي والحاضر...

... سنجد أننا قد خسرنا المستقبل.

لنترك الماضي، فالحاضر يقول إن مواقف الدول الغربية تجاه إسرائيل تتغير، فيما إسرائيل تعمل بجهد منظم ضد هذا التغيير بينما العرب يتفرجون باستثناء جماعات حقوقية قليلة تحاول دعم هذا التوجه الجديد. لقد أصبح المسؤولون الإسرائيليون يطاردون كالمجرمين في أوربا، وآخر مسلسل الملاحقة كان الأسبوع الماضي في بريطانيا، حين صدرت مذكرة اعتقال من محكمة وستمنستر بلندن بحق وزيرة خارجية إسرائيل السابقة ليفني لاتهامها بالمسؤولية عن ارتكاب جرائم حرب خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة. وكانت زيارة ليفني تهدف لجمع تبرعات لإسرائيل في مؤتمر ينظمه الصندوق القومي اليهودي، ولكنها ألغت مشاركتها.. وأكدت مصادر بريطانية أنها كانت موجودة في بريطانيا وتم تهريبها عقب صدور مذكرة الاعتقال!

الأسبوع الماضي ارتعبت إسرائيل وفقدت هدوءها الدبلوماسي المعهود مع الغرب عبر التصريحات التي تشبه تصريحات الدول الدكتاتورية المارقة، إذ صعّدت لهجتها ضد بريطانيا، وقالت إنها ترفض الإجراءات القضائية المغرضة التي قامت بها محكمة بريطانية ضد ليفني بمبادرة من عناصر متطرفة، وأن غياب تحرك حازم وفوري لإنهاء هذا الوضع سيضر بالعلاقات بين البلدين، بل هددت أنها سوف تحرم بريطانيا من أن تلعب دوراً في عملية السلام!

صحيح أن محكمة وستمنستر سحبت أمر الاعتقال بحجة أنها فقدت صلاحيتها بسبب أن ليفني ليست في بريطانيا.. وصحيح أن جماعات مؤيدة للفلسطينيين قد فشلت في سبتمبر الماضي في إقناع محكمة في لندن بإصدار أمر اعتقال بحق وزير الحرب الإسرائيلي باراك الذي كان في لندن، بسبب أنه يتمتع بحصانة دبلوماسية، وأنه سبق أن واجه سلفه آنذاك، موفاز، قضية مماثلة، ولكن القضاء منحه الحصانة الدولية في سابقة كانت الأولى من نوعها في محاكم بريطانيا، حسب الجاردين.. وصحيح أن مسؤولين بريطانيين قالوا إنه ينبغي إعادة النظر في مثل هذه القضايا لكي لا تعرقل سير عملية السلام ولا تضر بالمصالح العليا لبريطانيا.. إلا أن صورة إسرائيل لن تعود كما كانت، وهذا ما يرعبها، لأنه بداية تحول في الرأي العام الغربي لا تُعرف نهايته.. بل أصبحت بريطانيا لدى البعض هناك منحازة ضد إسرائيل! (هل يتصور العرب هذه المفارقة؟)

إسرائيل مدللة الغرب تعتمد صورتها على عقدة أوربا وشعور الأوربيين بالذنب تجاه الجرائم النازية البشعة ضد اليهود، وعلى أنها واحة الديمقراطية في صحراء دكتاتوريات الشرق الأوسط، أصبح مسؤولوها يواجهون مذكرات اعتقال بتهم جرائم الحرب، هذا سيعمل على هز الصورة البراقة لإسرائيل، ومن ثم سيخفض التبرعات المالية التي تضخها المنظمات اليهودية الغربية أو المتعاطفة معها، ويقلل من الدعم الذي تحظى به من أوربا، والذي قد يمتد إلى أمريكا..

وإذا كانت إسرائيل مرعوبة مما يحصل، وفقدت توازنها مؤقتاً، إلا أنها لا تلبث أن تراجع نفسها وتستعيد توازنها مستنفرة كل قواها الدبلوماسية ونفوذها وعلاقاتها، كما حصل بعد تقرير جولدستون؛ بينما الجانب العربي وخاصة الفلسطيني لا نكاد نسمع له صوتاً.. وللسخرية، ربما يكون الصمت الفلسطيني أفضل إذا كان التحرك مثل الذي حصل مع تقرير جولدستون، حيث ارتكبت السلطة الفلسطينية خطأً فادحاً قبل صدور التقرير بطلب تأجيله لكي لا يؤثر سلبياً على مفاوضات السلام، وإن كانت السلطة تراجعت وصححت الخطأ..

وكان مجلس حقوق الإنسان للأمم المتحدة قد أقرّ مشروع جولدستون حول العدوان الإسرائيلي على غزة، الذي يتهم إسرائيل وبعض المسلحين الفلسطينيين بارتكاب جرائم حرب. وقد صوتت 25 دولة لصالح القرار بينما عارضته 6 دول وامتنعت 11 دولة عن التصويت. وقد قوبل القرار بترحيب الوفود العربية والإسلامية وحركة عدم الانحياز، فيما غضب الوفد الإسرائيلي وغادر القاعة قبل التصويت. وأوصى القرار بإحالة نتائج التقرير إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا لم تجرِ إسرائيل وحماس تحقيقات ذات مصداقية خلال ستة أشهر.

في ظل هذه التطورات كان الجانب العربي كعادته يمارس ردود فعل عامة وفضفاضة وقديمة لا تتغير مع تغير الأحداث، بينما دعا نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل بعد تقرير جولدستون، إلى إعادة كاملة ومتأنية لطريقة تعامل إسرائيل مع العالم سياسياً وإعلامياً وفي طريقة استخدامها للقوة، وقال إنه خلال ستة أشهر ستظهر طريقة جديدة في التعامل، زاعماً أن إسرائيل ستستوعب الصدمة مهما كانت حدتها.. أي أنها ستستفيد من الدرس!

وعوداً لموقف القضاء البريطاني الأخير التي سبب غضباً إسرائيلياً حاداً، لا تزال الغالبية العظمى من النخب العربية من دبلوماسيين وقادة رأي ومثقفين وكُتّاب يتحرجون من استغلال هذه الفرصة في دعم القضاء البريطاني وتثمين الموقف البريطاني ولو بالألفاظ، لأن ذلك معيب في العرف العربي الراسخ تجاه بريطانيا صاحبة الماضي الآثم في اصطناع إسرائيل.. يتحرجون من تغيير بسيط في خطابهم رغم أن السياسية هي مواقف متغيرة من أجل مصالح ثابتة، مما يعكس هشاشة وعينا بالعمل السياسي..

الحجة الدائمة لهذه السلبية العربية هي أن إسرائيل قطعة من الغرب، وهي مدللته عموماً ومدللة أمريكا خصوصاً الواقعة تحت سيطرة اللوبيات الصهيونية، فما فائدة اللعب بهذه الورقة الغربية المحسومة سلفاً لصالح إسرائيل؟ وننسى أن في لعبة السياسة لا أحد يدلل أحداً.. فأمريكا لا تدلل إسرائيل عشقاً بها، بل لأنها ترعى مصالحها في المنطقة، ولأنها حليف إستراتيجي وخادم مطيع لها.. صحيح أن اللوبي الصهيوني له تأثير مهم، لكن تركيبة المؤسسات الأوربية والأمريكية مفتوحة لكل اللوبيات الأخرى وإن كانت بدرجات متفاوتة من الانفتاح.. واللوبيات المتعاطفة مع الحق الفلسطيني يمكنها أن تنتزع أهم ورقة تلعب فيها اللوبيات الصهيونية وهي أن إسرائيل واحة الديمقراطية والعدالة وتحتضن أبناء صالحين لضحايا المجازر النازية التي ارتكبها الغرب المتأزم أخلاقياً تجاه اليهود.. والآن إسرائيل والمنظمات الصهيونية تمارس ضغطاً قوياً ومنظماً ضد المؤسسة القضائية البريطانية التي رغم أنها مستقلة فإنها تتأثر بالأوضاع الداخلية وبالضغوط المعنوية من الخارج، فهل تتمكن اللوبيات المتعاطفة مع الفلسطينيين من دعم هذه المؤسسة؟



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد