Al Jazirah NewsPaper Monday  21/12/2009 G Issue 13598
الأثنين 04 محرم 1431   العدد  13598

والحديث عن القدس يتجدَّد
د. عبد الله الصالح العثيمين

 

هذا العام -وفق التاريخ الميلادي - يكاد ينقضي. وقد اختيرت فيه القدس عاصمة للثقافة العربية. ومن حسن حظي أني حضرت أربع ندوات عن تلك المدينة الحاضنة للمسجد الأقصى.

وكانت أخرى تلك الندوات ندوة علمية دولية أقامتها جامعة سيدي محمد بن عبدالله بفاس تحت عنوان: (القدس في الفكر العربي والدولي)، ورأست تنظيمها الشاعرة الأديبة الدكتورة لويزا بولبراس، أستاذة الأدب في تلك الجامعة ومديرة منتدى الجامعة الدبلوماسي. وذلك أيام الثالث والعشرين والرابع والعشرين والخامس والعشرين من شهر ذي الحجة عام 1430هـ.

وكانت مشاركتي في الندوة الأخيرة متمثلة في رئاسة أولى جلساتها العلمية، وإلقاء ورقة بعنوان (القدس في الضمير)، وإلقاء قصيدتين عن القضية الفلسطينية في الأمسية التي خصصت للشعر عنها.

ولعلَّ من المناسب قبل ذكر ما تضمنته الورقة التي قدمتها أن أورد شيئاً مما قالته الدكتورة لويزا بولبراس في كلمة الافتتاح شاهداً على حسها المرهف تجاه القضية الفلسطينية، وعلى روعة أسلوب كتابتها النثرية، التي يستمع إليها المستمع فيطرب، ويقرؤها القارئ فينتشي. كان مما قالته:

(صعب على من يدير ندوة علمية دولية أن يراهن على تحقيق الخصوصية، وضمان النتائج الموضوعية. فإذا تعلَّق الأمر بندوة في إطار احتفالية القدس عاصمة للثقافة العربية كان الأمر أشد.

لقد علت طوال هذه السنة -وعلى امتداد الوطن العربي - أصوات تطرح جدوى الاحتفالية أصلاً وإمكانية ربح المواجهة بالثقافة بعدما خسرنا في السياسة والحرب. ولمثل هذا الطرح على سلبيته ما يبرره من الوقائع الحالية للأسف. لذلك حين اختيرت القدس عاصمة للثقافة العربية لبسنا أقنعة تنكرية، وأدرنا الظهر خجلين إلى بعضنا البعض، ونهضنا نحتفل هنا وهناك.. رقصنا مكبرين كرقص الطير مذبوحاً من الألم، وابتسمنا فرحين كابتسام المرء عند خروج الروح. وما ذلك إلا لعلمنا بأن القدس تغرق في بحر لجيّ، ولا ملمح لجوديّ تستوي عليه، أما حمامة السلام التي تبشر بالأرض اليبوسية، فقد أبطأت في استخلاص غصن زيتون واحد من فك جرافة أتقنت قضم الجذوع.

لقد وقعت على بعد المسجد الأقصى في الشَّرَك الأقسى. باتت تعالجه وقد علق الجناح، وتقول في رنَّة ونياح:

أرى قدمي أراق دمي

فهان دمي وها ندمي

وقد صدقت في ذلك الحمامة. فالقدس القيامة.. القدس المسرى.. أولى القبلتين.. ثالث الحرمين.. بهجة الأرض.. زهرة المدائن.. عروس العروبة.. ما زلنا نشهد عريها وليس بين أيدينا نحن المثقفين سوى أوراق شفافة وخوص أصفر يابس.

القدس سيج حولها حتى لا تفلت، وأسوارها ترتع فيها الثعالب من كل فج، وسنابك الخيل تعفر في باحاتها جباهاً أنقى من الثلج. أهلوها جلودهم جافة كالحطب، ملتهبة كتنور، ينشدون برميلاً ملآن بعدما الدرة اغتيل خلف برميل فارغ. يأملون عبرة من فرح من معبر رفح، والباب موصود، والمزلاج محكم.. على العيون ربط، وفي المعاصم أنيار، وأكثر الغرب الذي ننشد المفتاح منه وتر قوسه كعدو، ونصب يمينه كمبغض. أما العدو الذي لا يربطه بها سوى ثلاث وسبعين سنة من الانتفاع.. العدد الذي عانى وحشة الصحراء فلا يملك لنسلها سوى دبابة حمراء ولحرثها سوى ذبابة بيضاء.. ومع ذلك فما زال في عمر النضال الكثير، وما زال بأكناف القدس طائفة من الأمة على الحق، ولم تزل بيننا يبوس.. عزيزة على النفوس.. وحطين وعين جالوت رافدان رقراقان لنهر سلون).

تلك مقتطفات من كلمة الدكتورة الأديبة الشاعرة لويزا بولبراس، مديرة الندوة ومنظمات أعمالها في افتتاحها. أما كاتب هذه السطور فقد أفاد في كتابة ورقته بما سبق أن كتبه عن القدس من مقالات هذا العام.

ومن تلك المقالات مقالة عنوانها: (القدس في الضمير) نشرت في هذه الصحيفة الغراء على حلقتين في الشهر الثالث من عام 1430هـ، ومقالة عنوانها: (أهو التكريم أم التوديع للقدس؟) نشرت في شهر رمضان الماضي، ومقالة عنوانها: (تشخيص الضريح لقضية فلسطين) نشرت في شهر شوال الماضي. وقد بدأت الورقة كما يأتي:

لقد اختيرت القدس عاصمة للثقافة العربية هذا العام، الذي يوشك أن يودع أمتنا وتودعه بكل ما عانته وما زالت تعانيه من مآس وآلام. ونية من اختاروا تلك المدينة لتكون عاصمة لثقافة هذه الأمة، التي لا يشرِّف حاضر أكثرها، نية حسنة ومقدرة لدى المخلصين لأمتهم. ومن الدول العربية ما أقامت ندوة، أو نشاطاً ثقافياً عن هذه المدينة، التي سمَّاها من سمَّاها عاشقاً لها أم المدائن.. المدينة التي قال الله -سبحانه- وهو أصدق القائلين، بشأن مسجدها الأقصى: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)، وجعل نبيَّ الرحمة للعالمين مسجدها ثالث مساجد تشد إليها الرحال للزيارة عبادة لله جل وعلا.. على أن هناك من أمتنا من لم يهتموا بالمناسبة إطلاقاً. وهؤلاء من المؤكد أو شبه المؤكد، أنهم سيهتمون غاية الاهتمام لو كان الأمر يتعلّق بمغنية تعرض مفاتن جسدها، وتردد كلمات رخيصة تصل، أحياناً، إلى حد البذاءة.

وبعد ذلك أشرت بإيجاز إلى شيء من تاريخ القضية الفلسطينية؛ وبخاصة بعد أن ابتليت فلسطين بأن أصبحت تحت انتداب البريطانيين، الذين اتصف قادتهم بالمكر والخداع، فمهدوا للصهاينة طريق الاستيلاء على تلك البلاد الغالية، وترسيخ أقدامهم فيها. وكان ما كان مما هو معروف لدى الكثيرين. وكان مما أشرت إليه، أيضاً، اهتمام منتدى الفكر العربي، الذي عقد ندوة في هذا العام عنوانها: (القدس في الضمير). وفي تلك الندوة وُزع كتيب كتبه رئيس المنتدى، الأمير الحسن بن طلال، ويشتمل على ثلاث رسائل قال في إحداها:

(حسبنا دليلاً على فقدان إرادتنا وروحنا اكتفاؤنا بالبكاء على الأطلال، وندب ما حل بنا وبمقدساتنا من دون أن نستنهض هممنا للتصدي بحماسة وفتوة للتحديات والصعاب. أين الأمة بكل مقدراتها مما يجري في فلسطين.. أرضنا المقدسة الطاهرة؟ إلى متى تبقى القدس تحت نار الاحتلال وتبقى مساجدها وكنائسها حبيسة القهر والإذلال؟).

وبعد ذلك أوردت ما أوردت من حديث معتمد على المقالات الثلاث التي سبقت الإشارة إليها، ومتضمن التعليق على خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في القاهرة، الذي انخدع به من انخدع مع أن التأمل فيه تأملاً دقيقاً يوضح أن صاحبه منحاز إلى العدو الصهيوني، وما تلا ذلك الخطاب من مواقف أمريكية تزيد ذلك الانحياز إيضاحاً.

وكان ختام الوقة التي قدمتها في الندوة أبيات من قصيدة عنوانها (صدى العيد) تقول:

غدت فلسطين أشلاء ممزقة

وحل في أهلها فتك وتشريد

والقدس غيَّر محتل هويَّتها

وانتابها من يد الأوباش تهويد

والسادرون من الحكام ديدنهم

في كل نازلة شجب وتنديد

هاموا وراء سراب السلم زادُهم

من عمهم سام توجيه وتعميد

باعوا المواطن كي تبقى مناصبهم

يحيطها من رضا الأسياد تأييد

اللهم يا مالك الملك ألهم أمتنا، قادة وشعوباً، رشدها، وقوّ عزائمها لتنتصر على أعدائها الذين لا يريدون لها إلا الذل والصغار. إنك سميع الدعاء.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد