Al Jazirah NewsPaper Tuesday  22/12/2009 G Issue 13599
الثلاثاء 05 محرم 1431   العدد  13599
مدخل لدراسة الشعر السعودي المعاصر..! (2)
د. حسن بن فهد الهويمل

 

4 - والمتحدث عن الشعر في البلاد لابد له من الإشارة إلى ظاهرة (الشعر العامي) الذي خلف الشعر الفصيح في زمن التخلف، ونهض بمهماته، ولعل الدكتور (طه حسين) قد أشار إلى لونين من الأدب؛

أشار إلى (أدب تقليدي) خافت الصوت، و(أدب شعبي) ندي الصوت، ولم يتردد في وصف الشعبي بفساد اللغة، هذه الإشارة الذكية، حفزت الأديب والمؤرخ (عبدالله بن خميس) على تأليف كتاب (الأدب الشعبي في جزيرة العرب) استهله بمقولة ل(طه حسين): (... إن كل أديب لا يستقي مادته وروحه من حياة الشعب فليس أديباً ولا هو بكاتب للأدب)، وإذ تمسك بهذه الإشارة الاجتماعية الواقعية، لم يأخذ بمقولته عن فساد اللغة في هذا اللون من الشعر، وتلك المقولة متكأ في رفض هذا اللون، رفض دراسة لا رفض وجود وتذوق.

و(طه حسين) يميل إلى النقد الاجتماعي، أو هو رائده، وهو أميل إلى الأدب الواقعي، والخلاف حول (الشعر الشعبي) لا يمس واقعيته وشعبيته، ولا ينظر إلى فنياته، ولا إلى دلالاته، وإنما يقف ويطيل الوقوف حول لغته، وهو ما لم يحفل به (ابن خميس)، و(طه حسين) الذي كتب عن (الحياة الأدبية في جزيرة العرب) وضمنه كتابه (ألوان)، أدرك بثاقب نظره العزلة التي عاشتها جزيرة العرب والآثار السيئة التي تركتها في حياة الأدب واللغة العربية، وحديثه عن (الأدب الشعبي) حديث استدعاه واقع الحال، ولم يكن كما هو عند (ابن خميس) المعجب إلى حد الدفاع المستميت عن ظاهرة الشعر الشعبي، يقول (طه حسين): (وهذا الأدب -وإن فسدت لغته- حي قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب في باديتهم).

وإذا كانت طائفة من الكتاب تطلق على هذا اللون أدباً فإن مرد ذلك عدم النظر إلى فساد اللغة، والأدب لا يكون أدباً إلا إذا كانت لغته لغة الحضارة والدين والتاريخ، وتحفظي على التسمية لا يحول دون القبول المحدود والمشروط اضطراراً لا اختياراً ف(الشعر العامي) يعيش حضوراً طاغياً، لأنه يتوسل بلغة العامة، ولأنه شاع كالنار في الهشيم، في غياب الشعر الفصيح، وشيوع الأمية في البلاد، أسهمت في بقائه، حتى بعد أن شاع التعليم، وأنشئت الجامعات، وعمت الثقافة، وإذا توفر هذا اللون من الإبداع على فنيات الشعر فقد كان الأقرب إلى النفوس، لأنه يجمجم عما في خواطر القوم، ويعبر عن مكنوناتهم ومايساورهم من هموم، ويتحدث بلهجاتهم الملحونة، وليس بدعاً أن يكون محظياً عند الخاصة والعامة، ولكن المستنكر والمستغرب أن تأخذ اللغة الفصحى زينتها، ويكثر طلابها وأقسامها في الجامعات، ويتنامى الشعر الفصيح، ويكثر الشعراء، ثم يزداد الاهتمام بالشعر العامي، وتكون له مجلاته وصفحاته ودارسوه، وما هو في النهاية إلا مؤشر ضعف لغوي وتخلف علمي وانغلاق إقليمي.

وطه حسين الذي يعطي (الشعر الشعبي) ما له وما عليه، يشير إلى مؤثر مهم، يصفه ب(الحركة العنيفة) ويقصد بذلك (حركة الإصلاح الديني على يد المصلح محمد بن عبدالوهاب) رحمه الله يقول: (ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب، وقد كان هذا الأثر عظيماً خطيراً من نواح مختلفة، فهو قد أيقظ النفس العربية، ووضع أمامها مثلا أعلى أحببته وجاهدت في سبيله بالسيف والقلم واللسان).

وحديث (طه حسين) عن الشعر الفصيح في نجد يربطه بالحركة الإصلاحية، ويضفي عليه ثناء باذخاً. والحركة الإصلاحية لها أثرها الواضح على الشعر في المملكة، ولقد تقصيت هذا الأثر في كتابي (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر) وفي كتابي (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، وأثر الحركة يتجلى في المضامين، وفي المحافظة على عمودية القصيدة العربية، وقد تكون بكل سلفيتها قد صرفت الشعراء عن مجون الغزل ومبالغة المدح، والشعر الذاتي الممتع، ولأن البلاد دخلت في حروب بين الخصوم والأنصار، فقد نهض الشعر بدور الدفاع عن حوزة الدعوة، وذلك عامل ازدهار للأدب عامة وللشعر على وجه الخصوص، والشعر الشعبي الذي واجب الحياة لم تخب ناره، ولم يقل أنصاره، لقد التقط (ابن خميس) الخيط من ذلك البحث الانطباعي المجمل، الذي يقع في عشرين صفحة، فطاف في كل أنحاء الجزيرة العربية بما في ذلك (اليمن) ليتحدث عن نشأة الشعر العربي وتطوره وعلاقته بالشعر النبطي في سائر الأغراض والمعاني وهو بهذا الكتاب الذي يقع في أربعمائة صفحة قد فتح الباب أمام الدارسين لهذا اللون من الشعر، ولا أحسبه قد وفق في ذلك، والقول بأن الشعر العربي من أصول الشعر العامي، قول لا يقوم على دليل، ولا يسنده واقع، فالشعر العامي مرتبط بالموهبة الشعرية التي لم يجد الموهوب معها بداً من الإبداع في اللهجة التي يتقنها، لقد وجد دعاة الشعر العامي سبيلهم إلى مشاهد الأدب بهذه البادرة، وكلما ضيق عليهم الخناق، عولوا على دراسة أديب لا يشك أحد في تمكنه واقتداره، وحرصه على لغة القرآن، والمؤرخ للشعر في المملكة العربية السعودية لابد أن يستذكر أشياء بطأت به، فالعامية والشعر العامي مؤشر التفكك والتخلف، والدعوة الإصلاحية لها صبغتها الدينية المؤثرة، وبعد توحيد البلاد، وتواصل أهل الأقاليم، وتعميمه وتنوعه وتوفر الرخاء والاستقرار وتداول الحكم دون ثورات أو فتن، نهض الأدب وقوي الشعر.

5 - والحديث عن الشعر في البلاد يستدعي استحضار طوائف الشعراء ومن حولهم من المؤرخين والشارحين والدارسين، والحركة الشعرية مرت بتحولات رصدها المؤرخون والدارسون والنقاد، واكتنفوها من كل الزوايا، وكان المحافظون رأس أمر الشعر، ومن حولهم المقلدون والنظامون، وقليل من المؤرخين والدارسين من يلتمس الفروق الدقيقة بين الفئات الثلاث:

- المحافظين .

- المقلدين .

- النظامين .

ومن ثم، فالبعض يجمعهم في سلة واحدة، ويؤاخذهم بمستوى واحد، في حين أن المحافظة تختلف عما دونها من تقليد ونظم، وفي ذلك ظلم، ف(ابن عثيمين ت1362ه) شاعر محافظ، لا يقل في سياقه الأدبي في مصر، ومن وصفه بالتقليدية فقد ظلمه، ويقال عن (ابن بليهد ت1377ه) إنه مقلد لا يرقى في متانة شعره إلى مصاف سلفه (ابن عثيمين)، ومن وصفه بالمحافظة فقد ظلم الشعر في الجزيرة العربية، و(ابن بليهد) مهيأ لكي يكون شاعراً مجددا، ولو لم يشله التأليف، وتلهيه المسؤوليات، ويقال عن (ابن سحمان): وأنه ناظم، ومن وصفه بالمحافظة أو بالتقليد فقد أخطأ بحق الأدب.

والفرق بين الشاعر (علي السنوسي) في الجنوب وابنه (محمد)، كالفرق بين (ابن بلهيد)، و(ابن عثيمين)، والمتعقب للشعر في مكة والمدينة في مراحله الأولى يقف على محافظين ومقلدين ونظَّامين)، وإذ تجلت قدرات (ابن بليهد) التأليفية في مجال جغرافية الأدب، فإن قدرات (ابن سحمان) تجلت كذلك في مجال التأليف في العلوم الشرعية، والمنافحة عن الدعوة، والرد على الشعراء الخصوم، والمحافظة سمة محمدة، وليست سمة مذمَّة، وعلى عكس ذلك التقليد والنظم، إذ ربما يكونان سمة اقتدار لا مؤشر موهبة.

وإذا كان الشاعر (محمد سرور الصبان ت1392ه) مرهصاً للتجديد في الشعر، وهو إرهاص لا يدركه إلا العالمون، فإن الشاعر (محمد إبراهيم الغزاوي -1401ه) يأتي في ذروة المحافظين، ولم يتمكن الشاعران من التأسيس لبداية التجديد، أو التأصيل للمحافظة، وإنما مضيا تاركين للمشهد اختيار المسارات التي اختطها كل واحد لنفسه، دون النظر إلى إرهاصات (الصبان) ومن شايله من لداته ومجايليه. والذين تلقوا الراية من (الصبان)، تفرقت بهم السبل، ذلك أن المشهد العربي في مصر والشام له أصداؤه التي بلغت الحجاز، بل ربما انطلق بعضها من ربوعه على يد الوافدين للحج والعمرة والمجاورة وأصداء المعارك الأدبية العنيفة في مصر ربما أنها وجهت الأنظار لما يجب أن يكون عليه الشعر ف(شوقي) أمام عنف النقد (العقادي) سوّى بعض شعره، واستدرك مايمكن استدراكه، وبخاصة في البعد الموضوعي.

والتجديد الذي بدت ملامحه في شعر (الصبان)، والمحافظة التي تواصلت مع شعر (الغزاوي) لم يقفا بتوقف الشاعرين، وإنما اتخذ كل منهما مساره عبر شعراء نظروا أو لم ينظروا إلى من سلف، فالشاعر (عبدالوهاب آشي) و(محمد عمر عرب) و(أحمد العربي) كانت لهم محاولات متواضعة للتجديد. أما (محمد حسن عواد) و(حمزة شحاته) و(حسن عبدالله القرشي) و(طاهر زمخشري) فكان تجديدهم واعياً وصاخباً، وإن تفاوت بين (العواد) و(شحاته) لكنه بلا شك تجديد متوازن عند (شحاته)، وعنيف عن (العواد)، وإذا كان التجديد قد تواصل، وتنقلت رايته من جيل إلى جيل فإن المحافظة ظلت قائمة عند طائفة من الشعراء، نرى ذلك عند (ضياء الدين رجب) و(عبيد مدني) و(فؤاد شاكر). هذا على مستوى إقليم الحجاز في بدايات الحركة الأدبية في المملكة، ونراها عند (عبدالله بن خميس) و(عبدالله بن إدريس) وعند آخرين لم يلحقوا بهم في إقليم نجد، ونراها عند (محمد بن أحمد العقيلي) و(محمد بن علي السنوسي) في الجنوب وعند شعراء من (آل مبارك) في المنطقة الشرقية، ومن حول هؤلاء وأولئك عشرات الشعراء الذين ينازعون الأوائل صدارة المحافظة، وإشكالية تحديد المستويات تطال كل الاتجاهات، فالمحافظة يدعيها مقلدون والتجديد يدعيه محافظون، وحتى الذين استهواهم التجديد في الغرب، وقلدوه دون إتقان يعدون من المقلدين، وإن زعموا أنهم من رواد التجديد، والفرز بين هؤلاء وأولئك لا يأتي بيسر، ولا يحسم الموقف إلا النقد التطبيقي ومواجهة النصوص بالدعاوى غير المسنودة.

ولقد يحلو للبعض تسمية طائفة من الشعراء بالمجددين المحافظين، فعل ذلك الدكتور (عبدالله الحامد)، واستعذب رؤيته بعض من جاء بعده، ويأتي الجمع بين التجديد المحافظ من الصعوبة، بحيث لا يمكن تصوره، وحجتهم أن للموضوعات والمعاني مثلما للألفاظ والتراكيب والأشكال، فإذا جدد الشعراء في الموضوعات والمعاني، وحافظوا على الصور والأشكال والتراكيب فإن لهم نصيباً من التجديد، وعليهم كفلٌ من المحافظة، ولهذا يسمون بالمجددين المحافظين ويكون في إزائهم المجددون الحداثيون وليس هناك ما يمنع من هذه الإطلاقات، إذ لها شيء من الموضوعية، ولكنها عصية التصور إلى حد ما، وإذ يكون هناك مقلون أو متوقفون في فترات الريادة والتأسيس والانطلاق فإنهم لا يشكلون عقبة في محاولة الحكم على المرحلة، فالشاعر (عبدالقدوس الأنصاري) و(أحمد عبدالغفور عطار) و(أحمد محمد جمال) توقفوا في وقت مبكر، ولم يصدروا إلا وريقات قليلة، هي كل أعمالهم، والحكم عليهم أو على المرحلة من خلالهم مجازفة وجور في الحكم، والشعراء كافة استجابوا للمستجد الموضوعي، وبادروا إليه، ولكنهم تمنعوا في الاستجابة للمستجد الشكلي واللغوي وسائر المشمولات الفنية.

لقد تفاوت الشعراء في التواصل مع المؤثرات والعوامل والاستجابة لها، والتواصل في حد ذاته مؤشر نزوع إلى التجديد المتفاوت، والمحافظة المتفاوتة، فكل الظواهر لم تكن على ما هي عليه مع مرور الزمن، فالتجديد اللاحق يرى التجديد السابق محافظة مستنيرة، وقد يمضي إلى أبعد من ذلك ويعده تقليداً.

يتبع




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد