Al Jazirah NewsPaper Tuesday  29/12/2009 G Issue 13606
الثلاثاء 12 محرم 1431   العدد  13606
هندسة معمارية جديدة للعالم
جورج سوروس

 

بعد مرور عشرين عاماً على سقوط سور برلين وانهيار الشيوعية، أصبح العالم في مواجهة خيارٍ قاسٍ آخر بين شكلين مختلفين تمام الاختلاف من التنظيم: الرأسمالية الدولية ورأسمالية الدولة. فأما الشكل الأول، ممثلاً في الولايات المتحدة، فقد انهار، وأما الشكل الثاني، ممثلاً في الصين، فهو آخذ في الارتفاع. والآن بات من الواضح أن اتِّباع مسار القدر الأدنى من المقاومة من شأنه أن يؤدي إلى التفكك التدريجي للنظام المالي الدولي. ولا بد لنا من ابتكار نظام تعددي جديد قائم على مبادئ أكثر صحة.

وفي حين أن التعاون الدولي في مجال الإصلاح التنظيمي أمر يصعب تحقيقه على أساس جزئي، فقد يكون في متناول أيدينا في إطار صفقة كبرى تعمل على إعادة ترتيب النظام المالي بالكامل. والواقع أن الأمر يتطلب عقد مؤتمر ثانٍ على غرار مؤتمر بريتون وودز الذي أسس لبنية النظام المالي الدولي في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وذلك من أجل وضع قواعد دولية جديدة، بما في ذلك التعامل مع المؤسسات المالية التي تُعَد أكبر من أن يُسمَح لها بالإفلاس، والدور الذي يتعين على ضوابط رأس المال أن تلعبه. وسوف يتطلب الأمر أيضاً إعادة تكوين صندوق النقد الدولي بحيث يعكس على نحو أفضل النظام السائد بين بلدان العالم ويعمل على تنقيح أساليب عمل الصندوق.

إضافة إلى ذلك، يتعين على مؤتمر بريتون وودز الجديد أن يعمل على إصلاح نظام العملة. فقد تسبب نظام ما بعد الحرب، الذي منح الولايات المتحدة قدراً أعظم من المساواة بالمقارنة مع بقية دول العالم، في إحداث خلل خطير في التوازن. إن الدولار لم يعد يتمتع بالثقة التي حظي بها في الماضي، وعلى الرغم من ذلك فليس بوسع أي عملة أخرى أن تحل محله. لا ينبغي للولايات المتحدة أن تخشى التوسع في استخدام حقوق السحب الخاصة التي يصدرها صندوق النقد الدولي. ذلك أن تقييم حقوق السحب الخاصة بعملات وطنية متعددة، لن يسمح لأي عملة منفردة بالتمتع بميزة غير عادلة. لابد أيضاً من توسعة نطاق العملات المدرجة في حقوق السحب الخاصة. إن بعض العملات المضافة حديثاً، بما في ذلك الرنمينبي، قد لا تكون قابلة للتحويل بالكامل. ولكن هذا من شأنه أن يسمح للمجتمع الدولي بالضغط على الصين لحملها على التخلي عن ربط سعر صرف عملتها بالدولار، وهذه هي الوسيلة الأفضل للحد من الخلل في التوازن الدولي. وقد يظل الدولار محتفظاً بمكانته كعملة احتياطية مفضلة، شريطة أن يدار بقدر أعظم من الحكمة والتدبر. من بين الميزات الكبرى التي تتمتع بها حقوق السحب الخاصة هي أنها تسمح بخلق المال على المستوى الدولي، وهو أمر مفيد بشكل خاص في أوقات مثل وقتنا الحاضر. ومن الممكن توجيه المال إلى حيث تشتد الحاجة إليه، على العكس مما يحدث حالياً. والواقع أن الآلية اللازمة للسماح للدول الغنية التي لا تحتاج إلى احتياطيات إضافية بتحويل مخصصاتها للدول التي تحتاج لهذه الاحتياطيات، متاحة بالفعل باستخدام احتياطيات صندوق النقد الدولي من الذهب.

لابد وأن تمتد عملية إعادة ترتيب النظام العالمي إلى ما هو أبعد من النظام المالي، وأن تتضمن الأمم المتحدة، وخاصة عضوية مجلس الأمن. وهذه العملية لابد وأن تبدأ بالولايات المتحدة، ولكن الصين وغيرها من البلدان النامية لابد وأن تشارك على قدم المساواة. إن هذه البلدان من الأعضاء غير المتحمسين في مؤسسات بريتون وودز، التي تهيمن عليها بلدان لم تعد مسيطرة. ولابد وأن تشارك القوى الناشئة في تأسيس هذا النظام الجديد من أجل ضمان دعمها النشط. إن النظام لا يستطيع البقاء في هيئته الحالية، والولايات المتحدة لديها الكثير مما قد تخسره إذا لم تكن في طليعة الجهود الرامية إلى إصلاح هذا النظام. وما زالت الولايات المتحدة حتى الآن في وضع يسمح لها بقيادة العالم، ولكن في غياب الزعامة بعيدة النظر، فمن المرجح أن يستمر وضعها النسبي في التدهور والتراجع. فلم يعد بوسعها أن تفرض إرادتها على الآخرين، وهي الغاية التي كانت إدارة جورج دبليو بوش تسعى إلى تحقيقها، ولكنها قادرة على قيادة الجهود الجماعية الرامية إلى إشراك كل من بلدان العالم المتقدم وبلدان العالم النامي، وبالتالي إعادة صياغة الزعامة الأمريكية في هيئة مقبولة.

الحق أن البديل سوف يكون مخيفاً، وذلك لأن خسارة أي قوة عظمى لهيمنتها على الصعيدين السياسي والاقتصادي، واحتفاظها على الرغم من ذلك بالتفوق العسكري، يشكل مزيجاً بالغ الخطورة. لقد اعتدنا على طمأنة أنفسنا بذلك التعميم الذي يزعم أن البلدان الديمقراطية تسعى إلى السلام. ولكن بعد رئاسة بوش لم تعد هذه القاعدة جديرة بالتصديق، هذا إن افترضنا أنها كانت كذلك في أي وقت مضى. الواقع أن الديمقراطية تمر بأزمة عميقة في أميركا. ذلك أن الأزمة المالية قد فرضت قدراً كبيراً من المعاناة على المواطنين غير الراغبين في مواجهة الواقع المرير. ولقد عمل الرئيس باراك أوباما على نشر (معزز الثقة)، وهو يزعم أنه نجح في احتواء الركود. ولكن إذا حدث ارتداد إلى الركود، فسوف يصبح الأمريكيون عُرضة لكل أشكال الترويج للخوف والغوغائية الشعوبية. وإذا فشل أوباما فإن الإدارة المقبلة سوف تشعر بإغراء شديد إلى خلق شكل من أشكال صرف الانتباه عن المشكلات في الداخل - وهذا من شأنه أن يشكل تهديداً خطيراً للعالم أجمع. ويتعين على قيادات الصين أيضاً أن تكون أبعد نظراً حتى من أوباما. فقد أصبحت الصين الآن على وشك الحلول في محل المستهلك الأمريكي بوصفها المحرك للاقتصاد العالمي. وبما أن ذلك المحرك الجديد سوف يكون أصغر حجماً فسوف ينمو الاقتصاد العالمي ببطء، ولكن نفوذ الصين سوف يرتفع بسرعة بالغة. في الوقت الحاضر، أصبح الرأي المجتمع الصيني على استعداد لوضع حريته الفردية في مرتبة أدنى من الاستقرار السياسي والتقدم الاقتصادي. ولكن هذا التوجه قد لا يستمر إلى ما لا نهاية - ولا شك أن بقية بلدان العالم لن تضع حريتها في مرتبة أدنى من رخاء وازدهار الدولة الصينية.

وبينما تتحول الصين إلى زعيمة عالمية، فلابد وأن تعمل أيضاً على تحويل نفسها إلى مجتمع أكثر انفتاحاً واستحقاقاً لاحترام بقية بلدان العالم وتقبلها للصين كزعيمة عالمية. ومع الحال التي آلت إليها علاقات القوة العسكرية فلم يعد لدي الصين أي بديل غير التنمية السلمية المتجانسة. والحق أن مستقبل العالم يتوقف على ذلك.

خاص بـ(الجزيرة)



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد