Al Jazirah NewsPaper Thursday  31/12/2009 G Issue 13608
الخميس 14 محرم 1431   العدد  13608

سياحة في بيت
عبد العزيز الحمد القاضي

 

الصدق يبقى!

الصدق يبقى والتصنّف جهالة

والقدّ ما لانت مطاويه بتفال

ابن لعبون

والتصنّف - كما يقول خالد الفرج - هو: الكذب والاختلاق، ورواية البيت كما نحفظها: والتصنّع يقال: تصنّع الرجل، إذا تظاهر بما ليس فيه، والتظاهر تمويه وكذب واختلاق. والقِدّ، بقاف معطّشة مكسورة: هو - كما يقول العبودي - سيرٌ من الجلد غير المدبوغ، ويكون من جلد البعير في الغالب، والقدّ أشد التصاقا وقوة من الجلد المدبوغ، ولذلك قالوا في المثل: تحزّم له بقدّ، وشدة يُبس القدّ يُضرب بها المثل، فيقال: التفال ما يِبِلّ القِدّ، وهو معنى الشطر الثاني في بيت ابن لعبون هذا.

والمطاوي: الطيّات، وهي مثاني الحبل المجدول. والتفال: معروف، وهو اللعاب.

ومن يتأمل البيت يتوقف عند ضبابية العلاقة بين شطريه، فهل الثاني تأكيد لمعنى الأول، أم أنه مستقل بنفسه؟ ومعنى الأول: أن الصدق هو الذي يبقى ويستمر لأنه الحق، أما الكذب فإن حبله قصير كما يقولون، وإيثاره جهل وحمق. ومعنى الثاني: أن المشكلات الكبيرة لا تحلها الإجراءات الضعيفة، فهذا السير الجلدي اليابس المتين لا يلينه اليسير من الترطيب عن طريق التفال.

والحق أن بين الشطرين رابطا خفيا، فالعلاقة بينهما بلاغية أكثر منها حقيقية، وهي تشبيهُ معنوي بمحسوس، بوساطة التشبيه الضمني، والمعنوي هنا هو المشكلة، فهو مستفاد من مدح الصدق وذم الكذب، والمعنى أنه كما أن الكاذب مهما زوّق الكلام وزيّفه، وحاول أن يمرره على الآخرين، فإن كذبه لن يؤثر في طمس الحق إلا كما يؤثر التفال في القدّ، والتفال لا يُلين القدّ.

وهنا مسألة أخرى، وهي توظيف كلمة تفال بإيحاءاتها المقززة في الشعر، والحق أن ابن لعبون لا علاقة له هنا بسوئها، فهو نقلها بلفظها من المثل الذي ورد في كلام العبودي أعلاه، ويحسب لابن لعبون أنه أعاد صياغة المثل بطريقة شاعرية حلوة على الرغم من قبح الكلمة.

و(التفال) وهي كلمة فصيحة، وردت في بيت لعمر بن أبي ربيعة، يقول:

ولو تفلت في البحر والبحر مالح

لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا

والكلمة هنا لم تخرج عن القبح الوارد في بيت ابن لعبون، فالتفل وهو البصق لا يُخرَج عادة إلا في حالات سيئة! وتأمل الفرق بين كلمة (تفلت) وكلمة (ريقها) في البيت، تدركْ قُبْحَ الأولى وحلاوة الثانية.

والبيت - على غير ما اعتدناه في شعر عُمَر - ضعيفٌ معنًى ومبنى، وضعف المعنى نتج عن أمرين: استخدام كلمة (تفلت)، وعن المبالغة غير المقبولة فيه.

وضعف المبنى نتج عن الحشو المتمثل في عبارة والبحرمالح.

ومثل معنى هذا البيت، ورد في بيت لشاعر نبطي هو ابن عبدالرحيم التميمي (راعي أشيقر) الشهير بلقب (المطوّع) المتوفى سنة 1015هـ على وجه التقريب، من قصيدته الشهيرة التي قالها على إثر قصته المؤلمة المعروفة، ومطلعها:

قال التميمي والذي عاش مترف

مدى العمر ماشا في زمانه جاه

قال:

خليلي لو يبزق على الشري ريقه

غدا عسل وأغنى التجار شراه

ويلاحظ أنه قال ريقه بحلاوتها وجمال إيحاءاتها. و(البزق) هو البصق والتفل. و(الشري) الحنظل المرُّ المعروف. والبزق هنا أكثر قبحا من التفل، لأن له - زيادة على إيحاءاته التخييلية - إيحاءات صوتية مقززة أيضاً.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد