Al Jazirah NewsPaper Tuesday  26/01/2010 G Issue 13634
الثلاثاء 11 صفر 1431   العدد  13634
 
سؤال الأمن والاستقرار في ماراثون التنافسية
فضل بن سعد البوعينين

 

الأمن من مقومات الحياة الأساسية، لا يمكن أن تُبنى الأوطان، ويهنأ الإنسان بمعزل عنه. لا يعرف قيمة الأمن إلا من فقده، وفقد معه طعم الحياة، والاستمتاع بطيباتها التي أحلها الله لعباده. الأمن من أهم مقومات التطور والرقي، والبناء وحماية الحريات. قد يهنأ الإنسان في بيئة يحفها الأمن والأمان، مع قلة الرزق وشظف الحياة، إلا أن الاستمتاع بأموال الدنيا ونعيمها يُصبح أمرا مستحيلا في ظل غياب الأمن والطمأنينة.

وقد ضرب الله سبحانه وتعالى مثلا جمع فيه بين الأمن والطمأنينة والرزق في قوله: ?وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ? وهو مثل أريد به أهل مكة الذين مكنهم الله في الأرض وأنعم عليهم وجعل بلدتهم آمنة مطمئنة مستقرة يأتيها رزقها من كل مكان، في الوقت الذي يتخطف الناس من حولها، فلما كفروا بأنعم الله وكذبوا الرسول، صلى الله عليه وسلم، عاقبهم الله سبحانه وتعالى بالخوف والجوع. وبذلك يكون الأمن، والرزق من أعظم نعم الله على البشر، يُكافؤهم بهما في حال الرضى، وينزعهما عنهم في حال السخط، والعياذ بالله.

وفي سورة (قريش) ذَكَّرَ الله سبحانه وتعالى قريش بنعمه وفضائله في قوله: ?لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ. إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ?، فجمع سبحانه وتعالى بين نعمتي الرزق والأمن وهما صنوان لا يفترقان فلا بناء، ونماء دون أمن واستقرار.

وذهب المفسرون إلى الربط بين سورة (الفيل)، و(قريش) على أساس أن الله سبحانه وتعالى دمر أصحاب الفيل، ورد كيدهم في نحورهم بعد أن هموا بهدم الكعبة المشرفة، وكان في تدميرهم طمأنة لقلوب أهل مكة وتمكينا لهم، وهو ما يعرف في هذا الوقت، بالتمكين السياسي. فكأنما أراد الله سبحانه وتعالى تذكير قريش نعمته الأولى عليهم من حيث التمكين والاستقرار والسيادة، ومن ثم الأمن والإطعام، وهو ما يمثل الاقتصاد في ذلك الوقت.

ودعا سيدنا إبراهيم، عليه السلام، ربه بالأمن، ثم قرنه بالرزق، تأكيدا لأهمية الأمن للعيش والإزدهار، وانعكاساته على الرزق، قال تعالى: ?وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هََذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ?.

ومثلما كان الأمن والاستقرار السياسي القاعدة الصلبة التي بُنيَ عليها الاقتصاد المكي القائم على رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن والشام، وازدهار أسواقها كنتيجة مباشرة لتوافد الحجاج عليها؛ فهما من المقومات الرئيسة للازدهار الاقتصادي، وجذب الاستثمارات الأجنبية وتوطينها في الوقت الحالي.

يتحدث الجميع عن (التنافسية) ومقدرتها على جذب الاستثمارات، وزيادة معدلات الإنتاجية، وتطوير الاقتصاد بما يعود بالنفع الكبير على المستثمرين والدولة الحاضنة. يذهب المستثمرون للتدقيق في مواصفات البيئة الحاضنة، وتوفر البنية التحتية الحديثة، والأنظمة والقوانين الداعمة للاستثمار، ومرجعية التقاضي وما يتعلق بها من وضوح القوانين والأحكام وتحقيق الشفافية المطلقة؛ وهي دون أدنى شك من المقومات الرئيسة، إلا أنها تبقى دون معنى إذا ما توفرت بعيدا عن الأمن والاستقرار السياسي.

أن تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي يمكن أن يكون مقدما على ما سواه في مارثون (التنافسية العالمية) على المدى البعيد، وإذا ما تحقق الاستقرار فالمقومات الأخرى يمكن خلقها وفق خطة إستراتيجية شاملة تدفع نحو إستكمال مقومات التنافسية العالمية في مدة زمنية محددة كما فعلت الهيئة العامة للاستثمار بتنفيذها لبرنامج خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الموجه نحو تحسين بيئة الاستثمار في المملكة، والتي حققت نجاحا كبيرا في تقدم المملكة في سلم التنافسية واحتلالها المركز 13 عالميا في بيئة الأعمال والتنافسية الاستثمارية.

الاستقرار السياسي

لا يمكن الفصل بأي حال من الأحوال بين التنمية الشاملة التي تشهدها المملكة، في جميع المجالات، وبين الاستقرار السياسي الذي منّ الله به عليها، فأصبحت قادرة على تنفيذ خطط التنمية بعيدا عن منغصات المنازعات الدولية، أو التصادمات الداخلية. حققت المملكة قدرا فائقا من التوازن بين متطلبات التنمية والنمو الثقافي، والتطور العلمي والتقني ومقومات المجتمع بما لا يخل باستقراره، ولا يقود نحو التصادم المدمر.

علاقة المملكة المميزة مع المجتمع الدولي، وعضويتها في المنظمات الدولية، وإلتزامها بالقوانين الدولية بعيدا عن المناوشات السياسية والإعتداءات التي كان من الممكن أن تؤثر سلبا في تحقيق التنمية الاقتصادية، ساعدتها في تكريس استقرارها السياسي، وفرض احترامها على الآخرين. مؤسسة الحكم كان لها الدور الرئيس في تحقيق الاستقرار السياسي الأمثل للبلاد والعباد. ومن دونها لم تكن الدولة قادرة على تحقيق كل ما وصلت له من تطور وازدهار، وبناء لقطاعات الاقتصاد ما جعلها قبلة المستثمرين، ووجهة الباحثين عن الفرص الآمنة حول العالم.

إن بناء الدولة الحديثة على أسس دستورية متينة، واضحة لا تحتمل التأويل أو اللبس لتكفل، بعون الله وقوته، الاستقرار السياسي، الوحدة الوطنية، والأمن والازدهار للأجيال القادمة، وفي الوقت نفسه تضمن تحقيق النمو والازدهار من خلال توفير البيئة المستقرة الحاضنة لقطاعات الاقتصاد.

استقرار الدولة السياسي هو الكفيل باستمرارية العيش والبناء والتنمية الاقتصادية، والازدهار.

ولا يمكن أن تهنأ الشعوب بالتنمية الاقتصادية، الاجتماعية، الحضارية، والفكرية، وإن تهيأت لها الثروات، ما لم تتوفر لها مقومات الأمن والاستقرار اللذين يعتمدان أولاً وأخيراً على الاستقرار السياسي.

الاستقرار الأمني

جملة من الأحداث الأمنية التي واجهتها المملكة بقوة وحزم، لم تؤثر فيها، بل أكسبتها قوة ومنعة. المملكة تُقاتل على جبهات عدة لتحقيق الأمن الشامل، الضامن الحقيقي للاستقرار والتنمية، والمحقق الأول للتنافسية. المملكة قبلة المسلمين، وأرض الحرمين التي تستقبل أكثر من مليوني حاج في كل عام. عدد مهول يتمركز في مساحة ضيقة من الأرض، يحتاجون إلى الأمن والآمان، وهو ما تحرص المملكة على توفيره لهم. تُسَخِر المملكة قواتها لحماية الحجيج، وضمان سلامتهم، وتوفير الأمن لهم. تحرص المملكة على أن تكون فلسفة «التنافسية» حاضرة في مواسم الحج، وإن كانت الوحيدة في العالم المؤهلة لاستقبال ضيوف الرحمن. يُطلق الاقتصاديون مصطلح (الاحتكار) للإشارة إلى انعدام المنافسة، والقدرة على السيطرة والتحكم. إلا أن المملكة تعمل وفق قوانين فلسفة (التنافسية) في مواسم الحج ضمانا لتقديم أفضل الخدمات لضيوف الرحمن. تجهيز البنية التحتية لضمان تقديم أفضل الخدمات هو الهم الأول للحكومة السعودية ومن أجل ذلك تنفق جزءاً لا يستهان به من ميزانياتها السنوية لتطوير وتوسعة الحرمين الشريفين خدمة للحجاج والمعتمرين. تهدف الدول في تحقيق التنافسية إلى تحقيق الربح، وجذب الاستثمارات الأجنبية، إلا أن المملكة تحرص في تحقيقها تنافسية الحج إلى إرضاء الله سبحانه وتعالى، والفوز بالحسنات، وجذب البركة بعيدا عن الحسابات الدنيوية.

وإذا كانت المملكة مسؤولة، أمام الله، عن حجاج بيته الحرام، فهي مسؤولة أيضا، أمام العالم، عن ضمان تنافسية وأمن منابع النفط فيها. فالعالم أجمع يعتمد على السعودية في ضمان تدفقات النفط، واستقرار الأسعار. تستثمر المملكة مئات المليارات لضمان إمدادات النفط، واستقرار الأسواق، وحماية مصالح الشعوب الفقيرة. المملكة تعمل وفق فلسفة «التنافسية» في صناعتها النفطية، وإدارتها استثماراتها النفطية حول العالم. تعتمد المملكة على «التنافسية المسؤولة» في تحقيق أهدافها دون الإضرار بالآخرين. تنافسية المملكة النفطية جعلت منها القائد الرئيس لإنتاج النفط، وضبط الأسواق حول العالم.

كشفت دراسة أمنية صادرة عن وزارة الداخلية أن السلطات الأمنية تمكنت من إنقاذ الاقتصاد السعودي من ضربات موجعة من خلال إحباطها 31 عملية إرهابية كانت موجهة لقطاعي النفط والتكرير، وبعض المرافق الاقتصادية الأخرى خلال الخمس سنوات الماضية. تُرى لو نجح الإرهابيون في تحقيق بعض تلك العمليات، فهل كنا نتحدث اليوم عن مراكز المملكة المتقدمة في التنافسية العالمية؟!.

نجحت المملكة في تحقيق الأمن الشامل لمنابع النفط، وضمنت، بفضل الله، استمرار إمدادات النفط إلى الأسواق العالمية، حتى في أحلك الظروف. وواجهت أخطاراً عدة وعلى رأسها خطر الإرهاب بقوة وحزم منقطعي النظير، وهو ما أدى، بفضل الله وبركته، إلى استقرار العالم، والأسواق المالية.

حماية المملكة لأمن منشآتها النفطية، وضمان الإمدادات واستقرار الأسواق، ساعد كثيرا في تحقيق (التنافسية المسؤولة) للمملكة العربية السعودية، وتحقيق التنافسية الخاصة لقطاعاتها الإنتاجية ومدنها الصناعية. لولا الله ثم الأمن، واستقرار الأوضاع، لما نجحت قطاعات الدولة، ومؤسساتها الاقتصادية في تحقيق مقومات (التنافسية) الحقة التي أهلت المملكة لاحتلال المركز 13 في التنافسية العالمية.

من نعم الله على هذه البلاد وأهلها، أن وهبها الأمن والاستقرار، فكان بمثابة الحصن المنيع الذي حمى الله به رزق هذه البلاد الطيبة، وحمى به شعبها من عبث العابثين، فكان القاعدة الصلبة التي انطلقت منه «تنافسية» المملكة العالمية. فوزارة الداخلية، رجال الأمن، وأفرع القوات الأمنية هم شركاء حقيقيون في مشروع (التنافسية) التي لا يمكن أن تتحقق بمعزل عن الأمن والاستقرار.

الاستقرار الاقتصادي

كشفت الأزمة الاقتصادية العالمية عن متانة الاقتصاد السعودي وقدرته على تجاوز العقبات، بعد أن خرج سليما معافى من تداعيات الأزمة العالمية الطاحنة، إلا من بعض التداعيات الهامشية. تشهد المملكة استقراراً اقتصادياً غير مسبوق مدعم بالأنظمة والقوانين الحديثة، والإدارة الحكيمة، وأرصدة ضخمة من الاحتياطات المالية، ومنشآت مالية، صناعية، خدمية قادرة على تحقيق الدعم الأمثل للاقتصاد الوطني.

خلال الخمس سنوات الماضية شهد الاقتصاد السعودي تطوراً ونمواً كبيرين. خرج من مرحلة تحمل ديون التنمية إلى بناء الاحتياطات المالية الضخمة، وتضاعفت ميزانية الدولة ووصل الإنفاق الحكومي إلى أرقام مهولة تصل إلى مستويات 540 مليار ريال سعودي. احتفظت المملكة بدرجة التميز ( A A) في التصنيف الإئتماني العالمي الذي يؤكد على متانة الاقتصاد والقوة المالية للمملكة العربية السعودية وحسن إدارتها لاستثماراتها الخارجية واحتياطياتها والإشراف المنضبط على القطاع البنكي. توفر الإحتياطات المالية الضخمة، انخفاض الدين العام مقارنة بالناتج المحلي، وكفاءة الاقتصاد دعموا تنافسية المملكة وحققوا لها المراكز المتقدمة في التصنيفات العالمية.

استمر مؤشر ثقة شركات الأعمال السعودية في الارتفاع، وذلك وفقاً لآخر التقارير المتخصصة الذي نشرته مجموعة HSBC، حيث أكد على أن مجتمع الأعمال السعودي الأكثر ثقة في المنطقة.

الاستقرار الاقتصادي أعطى المملكة بعداً في التنافسية العالمية ما ساعد على جذب الاستثمارات الأجنبية، حيث حققت المملكة المركز الأول في جذب الاستثمارات الأجنبية في المنطقة، وهو أمر يتوافق مع ما تحققه المملكة في سباق (التنافسية العالمية).

نخلص إلى القول بأن التنافسية المسؤولة لا يمكن أن تعتمد في مكوناتها الرئيسة على معطيات الاقتصاد، وتجهيزات البنية التحتية بمعزل عن الأمن، فهي في حاجة ماسة إلى تحقق الأمن والاستقرار السياسي، الضامن الأول لمكتسبات التنمية، ومقومات التنافسية، وكل ما عدا ذلك لا يمكن إلا أن يكون جهوداً جبارة يمكن أن يفقدها المجتمع في غفلة من الأمن، أو اهتزاز الاستقرار، كما يحدث في بعض الدول التي خسرت جهودها التنموية، ومواقعها التنافسية بسبب فقدانها الأمن والاستقرار السياسي.

F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد