Al Jazirah NewsPaper Monday  22/03/2010 G Issue 13689
الأثنين 06 ربيع الثاني 1431   العدد  13689
 
يموت الصحيح ويحيا السقيم

 

مثلٌ صحيحٌ وقول سليم وحكمة واقعية في هذا العصر بالذات، يخرج المرء من بيته صحيحاً معافى بكامل نشاطه وحيويته، وابتسامةٌ تملأ شفتيه، وإشراقة تتلألأ من جبينه بضحكات أولاده الصغار الذين لاحقوه إلى عند الباب «بابا جب حلاوة»، وما إن يبتعد أمتاراً عن منزله حتى يأتي «مطفوق» ملأ الغرور صدره والاستهتار قلبه والعنجهية عقله وفي حركة لا تُرى بالعين المجردة يُفني حياة هذا المسكين ويُحطم فؤاد أطفاله الذين بقوا زماناً ينتظرون «الحلاوة» فتجهش الحناجر بالبكاء كل ما سمعهم من عندهم «وين بابا ما جاب حلاوة».. إنها قصة تتكرر بدون عدٍّ ولا حدّ، نعمة السيارة أصبحت نقمة في زمن قصُرت فيه الأعمار؛ لا لأمراض معدية أو مستعصية، أو كوارث مدمرة، أو حروب طاحنة، بل بما هو أشد فتكاً، وأعظم خطراً، وأشد بأساً..

في حين يرقد ذاك الكهل على السرير عشرين سنة أو تزيد، مريضاً لا يستطيع الحراك، يلهج لسانه بالذكر والتسبيح والتحميد، ويرقب دخول وقت الصلاة ليُشغل فراغه بالعبادة والدعاء.. وبينما كل من يعرفه ينتظر نهاية حياته تمر آلاف الجثث المحطمة والمهشمة والمقطعة في الدور السفلي من قسم الطورائ، وهو يجلس بهدوء وسكينة طوال هذه السنين في غرفة العيادة الخارجية..

قصة حقيقية، وأمثالها لا تُعد ولا تُحصى، ذاك عجّل حتفه الصحة والنشاط، وهذا امتدت حياته لمرضه وسُقمه!

نعم إنها مشيئة الله ولا ريب، ولكن تدخَّل الإنسان فعجّل المشيئة وعاث في الأرض الفساد {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ}.

لقد بلغت كثرة الحوادث في بعض المناطق عندنا أن إذا سمع الناس بموت شخص سألوا مباشرة «أين وقع الحادث؟»، وكأن الناس لا يموتون إلا بالحوادث! فصدق علينا المثل القديم بعد تعديله لنقول: «راكب السيارة مفقود والنازل منها مولود»!

جرت حوارات كثيرة ونقاشات طويلة وهمس خفي وصوت مرتفع، كلها تقول: إلى متى؟ وما الحل؟ وأين الخلل؟

والجواب باختصار هو في القول المأثور: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، فلو جمعنا كل خطباء الدنيا ووعاظ الأرض ومشايخ الزمان وتحدثوا عن حرمة قطع الإشارة لما كان أثرهم مثل عسكري بدون رتبة يقف عند إشارة المرور، أو كَمِرَةً تصور مخالفي السير.. ومن ثَمَّ عقوبة رادعة وتطبيق عادل وصارم.

يقطع اثنان الإشارة أحدهما مصيره النَّكال والثبور، والآخر السلام والحبور وبدايتها «أبرك ساعة اللي شفناك»!

فكيف يتحقق المطلوب، ويستجيب الناس، وتنتظم الأمور؟!

ببساطة: هذه دبي قريبة منا، بمجرد دخول أي فرد إليها - منّا أو من غيرنا من القطعان السائبة - يلتزم بقوانينها وأنظمتها بصرامة، فانظر إلى طابور الشاحنات الطويل لا يتجاوز أحدهم الآخر، والسائق من عندنا يرجف قلبه مع كل دورة لكفر سيارته، وعندما يعودون يصبح كل شيء هباءً منثوراً، حتى ترى الشاحنات وكأنها ألعاب أطفال من جنون سائقيها في تجاوز بعضهم لبعض!! ومن يراهم يتساءل: هل أضحت بلادنا مستقراً للفوضى المرورية؟!

لا شك بأن عندنا أزمة أخلاقية رهيبة، لكن لماذا هذه الأزمة تزول بدبي، ثم تعود بعد تجاوز متر من جمرك الإمارات؟!

وكم رأينا وسمعنا من الذين كانوا عندنا من الوافدين وقد انتقلوا إلى دبي، فتغيرت طبائعهم وأخلاقهم، بل حتى هيئاتهم ونظام حياتهم! وما نزال نكرر: أين الخلل؟؟

ألسنا بحاجة إلى قول الشاعر:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

وجاءت الحدود الشرعية مكفرات وزواجر، تطهّر أصحابها من الرجس والإثم، وتمنع من لا يرعوي بالنظام الحضاري بالعقوبات والحدود، ومتى تهاون الناس في تطبيق القوانين أو حابوا فيها فسد أمرهم وكان بأسهم بينهم، ولهذا كان المبدأ المعلن في الإسلام: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، نظام يسري على الجميع وصرامة في التطبيق، فتكون النتيجة مجتمعا متحضرا وإنسانا راقٍيا وهدوءا وسكينة..

مع الأخذ بعين الاعتبار والنظر المعالجة النفسية، فالشباب عندنا لا يفرقون بين لعبة سيارات البلايستيشن أو قيادة السيارة في الواقع، كِلاهما سواء عند غالبيتهم، وإذا أدركنا المأزق الحضاري والنفسي عند الجميع في الاستهتار بالحياة العامة وعدم احترام حقوق الآخرين، تجمّع لدينا ركام هائل من السلوكيات المتعجرفة والعجب والغرور عند ركوب السيارات، وخاصة إذا كانت السيارة ذات طابع معين، فيظن السائق نفسه باتمان... وكل ما هو خارق للعادة، بل إنك لتعجب من شيخ وقور متزن الأخلاق ذو سمت وهيئة، فإذا ركب السيارة رأيتَ ثَمَّ رأيتَ ما لا ينقضي العجب منه، حماقة وسفاهة وقلة عقل وانعدام مروءة وانحطاط أخلاق!! ومهما توقعنا الأسباب لن نتوقف في عدِّها والنقاش حولها، لكن المَخْرَج هو في الحل والعلاج، وقصدي أن أضيف إلى ما سبق عدم إهمال العلاج النفسي، فكيف يكون ذلك.

لقد علمنا أن الدول المتقدمة عند مخالفات مرورية معينة أو تكرارها من السائق تطالبه بأعمال خيرية أو خدمية، ومن ضمن ما تهدف له كسر الغرور والعجب النفسي لدى بعض الناس الذين نفوسهم مستعصية أو بها مرض، وصدق حكيمٌ مجربٌ إذ قال: لو أن كل من يخالف مخالفة كبيرة مثل التفحيط أو قطع الإشارة أو الاعتداء على خصوصيات الآخرين يُطالب بأن (يدن) دنانة أو كَفَرْ أمام الناس، لتأدب الجميع من رؤية البعض بهذه الهيئة.

ولم لا؟ فهذا تأديب نفسي أهم من التأديب بالغرامة، خاصة أن من يُكررون المخالفات لديهم سببٌ لذلك يجعلهم لا يأبهون بالمبالغ المالية.

وهذا التأديب ليس بِدعاً من عند الغربيين ومن نحا نحوهم، بل ورد في سِيَر السابقين أمثلة متعددة، أذكر منها ما أخرجه ابن شبة وغيره: أن عمر رضي الله عنه استعمل عياض بن غنم (وهو صحابي جليل) على الشام، فبلغه أنه اتخذ حمَّاماً، واتخذ نُوَّاباً، فكتب إليه أن يقدم عليه، فقدم، فحجبه ثلاثاً، ثم أذن له، ودعا بجبة صوف فقال: البس هذه، وأعطاه كِنْف الراعي (أي الوعاء الذي يجعل فيه الراعي متاعه)، وثلاثمائة شاة، وقال: انعق بها، فنعق بها، فلما جاوز هنيهة قال: أقبل، فأقبل يسعى حتى أتاه، فقال: اصنع بها كذا وكذا، اذهب. فذهب حتى إذا تباعد ناداه يا عياض! أقبل، فلم يزل يردده حتى عرَّقه في جبته، قال: أوردها علي يوم كذا وكذا، فأوردها لذلك اليوم، فخرج عمر رضي الله عنه إليه فقال: انزع عليها. فاستقى حتى ملأ الحوض فسقاها، ثم قال: انعق بها، فإذا كان يوم كذا فأوردها، فلم يزل يعمل به حتى مضى شهران، قال: فاندس إلى امرأة عمر رضي الله عنها وكان بينه وبينها قرابة، فقال: سلي أمير المؤمنين فيم وجد علي؟ فلما دخل عليها قالت: يا أمير المؤمنين فيم وجدت على عياض؟ قال: يا عدوة الله! وفيم أنت وهذا؟ ومتى كنت تدخلين بيني وبين المسلمين؟ إنما أنت لعبة يلعب بك، ثم تتركين.

قال: فأرسل إليها عياض: ما صنعت؟ فقالت: وددت أني لم أعرفك ما زال يوبخني حتى تمنيت أن الأرض انشقت فدخلت فيها، قال: فمكث ما شاء الله ثم اندس إلى عثمان رضي الله عنه فقال: سله فيم وجد علي؟ فقال: يا أمير المؤمنين فيم وجدت على عياض؟ فقال: إنه مر إليك عياض فقال: شيخ من شيوخ قريش. قال: فتركه بعد ذلك شهرين أو ثلاثة ثم دعاه، فقال: هيه! اتخذتَ نُوَّاباً، واتخذتَ حماماً، أتعود؟ قال: لا، قال: ارجع إلى عملك.

والأخبار الواردة في مثل هذا كثيرة، ولا ينقضي العجب من رفض عمر لشفاعة زوجته وصرامته معها وإلا فله قصص طريفة في لينه مع نسائه وغلبتهن له أحياناً، ولكن فيما لا يُفسد أمور الناس بسبب المحاباة بتطبيق النظام، بل إن عمر عتب على عثمان في شفاعته لعياض فكيف بمن هو أدنى من عثمان؟!

وأساليب المعالجة بالعقوبة النفسية متعددة، ولا مانع من الاستفادة من تطبيقات الآخرين لها، مع إضافة ما يُناسب عقلية وأخلاقيات مجتمعنا في التأثير، كقول صاحبنا في (الدنانة والكَفَر).

إن القلب ليحزن حينما نرى مجتمعات أقل منا بمراحل كثيرة، ومع ذلك عندهم من الانضباط في القيادة ما نحلم بأن نصل لمستواهم، ولقد عشت في دولة إفريقية فقيرة ليس فيها إشارة مرورية واحدة وطرق صغيرة وبسيطة ومع ذلك فيها انضباط مروري عجيب، ونادراً ما تسمع بحادث فيها، ولو وقع لما رأيت إصابة واحدة!

أعلم أني لو دخلت في سجال مع المبررين فلن ننتهي، ولذلك اختصرت الحديث بالعلاج ولم أحاول تشخيص الأسباب، وكنتُ قد كتبتُ كلاماً طويلاً في تصوير بعض أوضاعنا المرورية ثم رأيتُ أن لا جدوى من نشرها؛ لأنه مهما تحدثنا عن واقعنا المروري فلن نستفيد إلا زيادة في أزمتنا النفسية وإحباطاً لمجرد التفكير في علاج أوضاعنا، ولذا فإني أختصر وأقول بكل تأكيد طبقوا نظاماً عادلاً ولستم بحاجة لملايين تُصرف بالملصقات والإعلانات والمهرجانات ونحوها، وليس العلاج بالترقيع والخبط واللبط مثل الصبات والمطبات وإغلاق الممرات... الخ، أما كيف يُطبّق النظام فلهذا وسائله المتعددة المضمونة النتائج إن صدقت النوايا.

وأعلم كذلك أن بعضا من المسؤولين عن المرور حينما يطّلعون على هذا المقال سيقولون هذا يكتبُ بعيداً عن الميدان، أو الشق أكبر من الرقعة، أو الأمر أكبر من هذا، أو كما قال لي أحدهم وقد رأيته منفعلاً عند الحرم المدني برمضان بشأن تصريف السيارات وهو ذو رتبة عسكرية عالية، فقلت له: الأمر بسيط لو أغلقتم هذا الطريق لا نتهى كل شيء، فرد بنبرة حزينة: «الطاسة ضايعة!»..

وأنا أقول ما دام أن فيه «طاسة» فسنجدها إذا كانت ضائعة، لكن المشكلة إذا لم تكن هناك «طاسة»، والسؤال من الذي سيعلِّق الجرس ويبدأ بالمعالجة الحقيقية بعيداً عن الاعتبارات الشخصية والنفسية والاجتماعية؟!

وإني على يقين بأن عندنا من القائمين على جهاز المرور ضباطاً لديهم الغيرة والتفاني ومعرفة مكامن الخلل والمقدرة على العلاج، والعشرات من أمثال ضاحي خلفان، بل يفوقونه كثيراً، ولكنهم بحاجة إلى دعم مطلق من عُلْيا القيادة!

د. عبدالعزيز بن سليمان المقبل



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد