Al Jazirah NewsPaper Monday  22/03/2010 G Issue 13689
الأثنين 06 ربيع الثاني 1431   العدد  13689
 
إلى الأمام
حين يمسك الأموات بتلابيب الأحياء
د. جاسر عبد الله الحربش

 

في الفترات التاريخية التي يحكمها الشلل أو العرج أو البطء الشديد في الحركة يكون الأموات (وهم قد شبعوا موتاً) أقوى وأشد سلطةً ونفوذاً من الأحياء، حينئذ، ولهذا السبب الخرافي، يكون الأحياء في حكم الأموات؛ لأنهم محكومون بأن يكونوا صورة طبق الأصل من الأموات. في الحضارات البدائية القديمة كانوا يسمون شخصية السلف البائد: الأب الطوطم، ويكون المساس به من المحرمات (التابو)، بحسب لغة الاجتماع وعلوم الأجناس.

كانت شخصية الأب الطوطم حاضرة بأقوى وأكثر مما كانت عليه قبل موتها؛ فشخصية الأب الطوطم التابو كانت تحتل مكانة اعتبارية مقدسة عند أفراد القبائل البدائية بحيث كانت (حضورياً) بائدة ومندثرة، لكنها (تأثيراً) حاضرة ونافذة؛ فعندما تتعرض القبيلة لهجمات الآخرين أو للقحط أو للأوبئة كان أفراد القبيلة البدائية يستحضرون أرواح آبائهم القدامى ويضرمون النيران ويدقون الطبول ثم يتقافزون ويتراقصون حول الآباء الرموز ليستلهموا منهم الصبر والرأي والمشورة.. بهذه الطقوس كانوا، بكل احترام واقتناع، يتقمصون أرواح الأموات؛ لعلهم يصيرون مثلهم أو قريباً منهم في الشجاعة والصبر والحكمة عند مواجهة مشاكلهم الداخلية والخارجية.. قناعاتهم البدائية الفطرية كانت راسخة على أساس أنه ليس بالإمكان حالياً أبدع مما كان سابقاً، وأن الأبناء، مهما بالغوا في الاجتهاد وتقليب الأمور، لن يكونوا بأي حال أفضل من الآباء الأولين، ولا حتى قريبين من ذلك، وإذاً فلا داعي للاجتهاد والبحث عن مخارج ومناهج أخرى غير تلك التي تختزنها ذاكرة الأحياء نقلاً عن الآباء الغابرين.

بناءً على هذه العقلية التقليدية التقديسية لما هو تراثي يجب على كل الأفراد الرجال أن يصطادوا طرائدهم ويرعوا أدباءهم ويعاملوا نساءهم وأبناءهم على منوال الآباء، مثل ما هو واجب على كل النساء أن يركعن وينفخن ويطحن ويعجن مثل أمهاتهن، وعلى الرجال أن يتصارعوا ويصرعوا الأعداء، وأن يتزوجوا ويربوا الأولاد الذكور على طريقة الآباء، كما أن على النساء أن يتزوجن وينجبن ويرضعن ويربين بناتهن على نفس صورة الأمهات الغابرات.

باختصار كانت الحضارات البدائية تدور ضمن دائرة حياتية واحدة يمسك فيها السابقون الأموات بتلابيب أو ب(سيقان) اللاحقين الأحياء في سلسلة متشابهة الحلقات لا تنتهي إلا بالانقراض الذي يحتمه الجهل بوسائل البقاء، أو على يد قبيلة أخرى وفق قوانين التدافع الكوني في الحياة لصالح الأقدر على البقاء.

مع استمرار الحال هكذا وعبور الحضارات البدائية مراحل طويلة من الصراعات تكونت هنا وهناك بذور إعادة النظر والاحتجاج على تلك التراتبية المقدسة بين الأموات والأحياء، ومن ثم بداية المطالبة بالتغيير لصالح الحياة نفسها.

نحن نعلم من قراءة التاريخ أن التغيير من حال إلى حال كان يتم بفعل الوحي الإلهي (الديانات السماوية) إلى رسول في قومه ينصحهم ويأمرهم بتغيير ما بأنفسهم لكي يبدل الله في أحوالهم إلى الأصلح، وأحياناً يتم التغيير بمجهود فرد (مصلح اجتماعي) يستطيع بتميزه العقلي والأخلاقي أن يجمع حوله بعض المريدين الشجعان المتمردين على عوامل الضعف أمام تحديات البقاء والاستخلاف في الأرض مع القبائل الأخرى.

بإحدى هاتين الطريقتين استطاعت بعض الحضارات ليس فقط أن تتغير وتتطور بل (وهذا هو الأهم) أن تستدخل وتستبطن التغيير المنهجي العقلاني في مفاهيمها الحياتية كواجب اجتماعي وتشريعي؛ وبذلك استطاعت أن تنتقل من أماكن التبعية إلى أماكن السيطرة والسيادة. وعلى النقيض من ذلك مارست حضارات أخرى مع تعاليم أنبيائها ورسلها، وأفكار مصلحيها أسلوب الرفض والتشكيك، وأحياناً التفسيق والتدمير المعنوي والجسدي.

هذا النوع الأخير من الحضارات كان ولا يزال يجهض محاولات التطوير والتغيير إما بطريقة الالتفاف على التعاليم والأفكار الإصلاحية بحيث يجعلها تصب في مصالح قبلية أو مناطقية أو مذهبية أو فئوية، وإما بممارسة العنف المباشر والتدمير للمطالبين الناصحين بالتغيير، وفي كلتا الحالتين يكون مآل مثل هذه الحضارات البائسة بائس مثلها، وما تلبث أن تنتهي باستنبات بذور الفتن والصراعات الداخلية التي تمتص مناعتها الذاتية وتضعفها؛ فتسقط فريسة سهلة لأية حضارة غازية أخرى، مجاورة كانت أو آتية عبر البحار.

الحضارات الفرعونية والبابلية والآشورية والرومانية والفارسية والأموية والعباسية سقطت كلها بإحدى هاتين الطريقتين.. تنطبق على هذا النوع (الحي شبه الميت) من الحضارات نفس القواعد والقوانين التي انطبقت ثم أطبقت على حضارات الآباء الطواطم التابو القديمة، حين كان الأموات يمسكون بتلابيب الأحياء ويمنعونهم من السير إلى الأمام.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد