مع أنه يصنف ضمن إطار الخط السياسي إلا أنه أيضاً يمثل أحد أبرز الأسماء الفاعلة في الحراك الثقافي، وذلك عطفاً على ما خلفه من بصمات جلية من خلال معطياته الإبداعية التي شكلت إضافة لها وزنها في السياق الثقافي العام.
لقد تشرفت بمقابلته فشرفني بإهدائه جملة مما تفتقت عنه ذهنيته من آثار تعكس ما ينطوي عليه من ذاكرة ثقافية تأسست معرفيا على أولوية الارتباط بالثقافة الدينية المستوحاة من أصولها الصحيحة. صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز من أول لقاء يأسرك بلطفه ويخجلك بدماثة خلقه وتواضعه الجم وشخصيته الكاريزمية.
هناك من الناس من يشغل مركزاً وظيفياً متدنياً ومع ذلك لا يرى الناس إلا مجموعة من الذر, ولذلك تجد مثل هذا يتجهم في وجوه الناس ويقطب أمامهم معتقداً بأن هذا الأسلوب هو الكفيل بمنحه وزناً إضافياً! وحقيقة الأمر أن هذا المسلك ليس نابعاً إلا من شعور حاد بالنقص يحدوه - بشعور أو بدونه - إلى وضع حواجز فاصلة تمنع الآخرين من التواصل معه؛ لأن هذا التواصل لو تم سيكشف محتواه الفارغ!. أما الوضع فهو مختلف بالنسبة لفيصل بن مشعل - وأكتفي بذكر اسمه فهو علم لا يحتاج إلى المعرفات - فهو رغم تميز امتداده الأسري ورغم علو موقعه السلطاني وعمق حضوره الثقافي مع ذلك كله فهو يتعاطى مع الآخرين بدرجة عالية من الأريحية والتبسط.
وفي هذه المقالة الموجزة سأشير إلى الجانب الثقافي في شخصيته وذلك من خلال مؤلفاته التي يلمس القارئ ما تحتويه من تأنق في الطرح وبراعة في توصيل الفكرة بأسلوب سهل يمكن الوقوف على معناه بأيسر تأمل بعيداً عن التعقيد الذي يبهم الفكرة ويستعصي على الفهم.
هذه المؤلفات المتنوعة - التي ليس بالوسع اختزالها في مقالة عابرة ولكن لعله يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق - دائماً تتوشح بزخم نصي فالمعاني القرآنية والأدلة ماثلة في ذهنه حاضرة في وعيه وحيثما وجد مقتضى الحال يتطلب استدعاءها جنح إليها يستقي منها ما تستلزمه طبيعة اللحظة المعرفية جامعاً في ذلك بين الاستشهاد النصي والتنظير التحليلي ليتآزرا جنباً إلى جنب في مد المتلقي بالإضافة التي يرومها.
من المسائل الجوهرية التي كثيراً ما يلح عليها مسألة الانفتاح ومد الجسور مع المغاير وهو يؤكد على ضرورة استصحاب شرط التوازن بحسبه الواقي الأول من طرفي الغلو بمتوازييه: الانفتاح العشوائي الأعمى والانغلاق الجمودي المنكفئ على الذات. ولذا فهو يقول: (لسنا دعاة انفتاح على ما يضر ولا دعاة انغلاق عما يفيد) التوازن كما يراه الدكتور فيصل بن مشعل لا يتحقق إلا برفع الرصيد المعرفي المتصل بعلوم الشريعة باعتبارها الشرط القبلي الضروري للانفتاح على المغاير. انظر مثلاً (ضوابط الانفتاح الاجتماعي ص 22) وفي كتاب (خير جليس ص10) يؤكد هذا المعنى فيشبه العلم الشرعي بقبضة السيف ونصابه ولذلك فهو يقرر أن الافتقار إلى العلم الشرعي هو المسؤول الأول عن توالد اتجاهات ايديولوجية تقفز على المعايير الشرعية، إما بدورانها في فلك المغاير العقدي والانعتاق من ضوابط الدينونة, أو من خلال سلوك المنهج العنفي الذي يعييه العثور على مسوغات تشكله. أيضاً هذا الفكر الفيصلي ينطلق من منطلق أن ثمة تواصلاً عميقاً بين العقل والنقل وأن موجد العقل هو منزل النقل وبالتالي فالاستدلال بالتلازم يؤكد أنه لا تعارض بينهما وقد أومأ باقتضاب إلى هاتيك القضية في كتابه: (ضوابط الانفتاح الاجتماعي ص23).
الاستقصاء القرائي لهذه الأطروحات يوقفك على كاتب إشكالي متميز ذي كفاءة عالية وتمكن من الأدوات المعرفية المتصلة بعلوم الحديث كما في كتاب (غراس جنة الخلود من دعاء وأذكار الملك سعود)، حيث حققه وضبط نصوصه وخرّج أحاديثه بمهارة احترافية تليق برصانة المثقف الطليعي.
أما كتاب (الدبلوماسية والمراسم الإسلامية) فتتجلى فيه قوة الشخصية الثقافية للمؤلف والاعتزاز البالغ بأدبيات المنظومة الإسلامية والتمحور حول كلياتها العامة, وهو لا يفتأ مؤكداً على أن هذا المنهج هو الذي يمنح الأمة الحضور الفاعل ويَسِمنا بالعلامة الفارقة التي تضفي على اشتغالاتنا العامة قدراً كبيراً من الانسجام والتناغم المنطقي. في كتابه (الأمان الثاني) تناول بمعالجة جادة وبطرح موفق قضية الاستغفار مقرراً أن محض الدينونة لله الحق هو ما يحدو المرء بتكثيف الفعل الدعائي (من الدعاء) المتكئ على الإلحاح في طلب المغفرة لكل ممارسة تشوه ملامح العبودية أوتقلل من مستوى تكاملها.
وفي كتابه (سر دوام النعم) تناول مسألة الشكر مجلياً ما يترتب على أدائها من آثار ومفصلاً في ذكر لوازم التجافي عنها ومؤكداً على ضرورة نقل تلك المسألة من حيز التمثل العقلي إلى إطار الواقع المتعين وكل ذلك يتم من خلال طرح مدلل ومترع بأدوات البرهنة الأمر الذي جعل هذا الكتاب يبدو مكتظاً بالإشارة إلى أمهات الكتب والمراجع التراثية المعتبرة التي كثيراً ما يستضيء بمؤدياتها.
أما كتاب (خير جليس) فهو بمثابة حديقة غناء لا يملك قاصدها إلا أن يسرح النظر في خمائلها ويستمتع بجاذبيتها الخلابة.
هناك أقلام اختطفت مقاعد الأستاذية ومع أنها ليست مؤهلة إلا أنها مع ذلك تقوم على نفَس وصائي لكن الوضع يختلف بالنسبة لمعطيات فيصل بن مشعل فهو يفصح عما يجيش بخلده وما يستكن في جعبته بتواضع نادر من نوعه، ولذا فهو يؤكد أنه ليس موجهاً بقدر ما هو يدلي بدلوه مشاركاً. انظر مثلاً كتابه: (دور هيئة الأمر بالمعروف في تحقيق الأمن الفكري والاجتماعي ص15) القاسم المشترك بين تلك الأطروحات الفيصلية هو التشبع بالروح الدينية الوسطية المعتدلة والنهل من كتب التراث العلمية والتأثر بالإمامين: ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله؛ الطابع العام لهذه الكتب هو الروح الفردانية - لا الذاتية - واللغة المنعتقة من سجن الأحادية والمنطق الوسطي المعتدل.
في الختام فهنيئاً للقصيم بفيصليها: فيصل بن بندر, وفيصل بن مشعل الذي ستحتفظ به القصيم لأربع سنوات أخرى بناء على الثقة الملكية الغالية في التمديد لسموه الكريم.