Al Jazirah NewsPaper Monday  12/04/2010 G Issue 13710
الأثنين 27 ربيع الثاني 1431   العدد  13710
 
الرقابة.. الضرورة الحمقاء!
عبد الرحمن الحبيب

 

من الصعب إيقاف سيل الكتب الممنوعة، لأن الناس يندفعون في اقتنائها مهما كان ثمنها. هذا ما قاله أحد المكتبيين المعتقلين في الباستيل في القرن الثامن عشر. المسألة جلية منذ قرون: الرقابة لا تستطيع مواجهة فضولية القراء.

«كلما كان المنع أكثر قساوة، رُفع سعر الكتاب، وحرك فضول قرائه، وبيع بأعداد أكبر. « حسبما كتب الفيلسوف الموسوعي ديدرو. فإذا كان هذا زمن الطباعة الورقية فكيف سيكون حاله في زمن الطباعة الإلكترونية؟ تذكرتُ ذلك عندما قرأت الأسبوع الماضي بياناً لبعض المجتهدين يحذر من خطورة الحرية التي مورست في معرض الكتاب الدولي بالرياض ويطالب بالعودة لرقابة بطلت فاعليتها وسقطت مشروعيتها، في الوقت الذي حقق المعرض نجاحاً جماهيرياً غير مسبوق، وعليه تشكر وزارة الثقافة الإعلام ويُثمن عالياً لوزيرها الذي أعلن أن لا سقف لحرية الفكر ولا منع للكتب في المعرض.

إن استعراض تاريخ الرقابة في أوربا منذ انتشار الطباعة بالثلث الأخير من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر لا يلهمنا العبر فقط، بل يشير إلى أنه رغم الخصوصيات الثقافية فقد اتضح أن أولويات الرأي العام والسلطة التي تظهر فيها ولا تزال هي متقاربة أكثر مما كنا نتصور بين أوربا والعالم العربي كما يذكر روبرت نيتز في كتابه تاريخ الرقابة على المطبوعات، الذي سنمر بلمحات خاطفة عنه.

بعد انتشار الطباعة في أوربا، أكد رجال الدين ثلاث خطايا للمطبعة ظلت مبرراً للرقابة خلال خمسة قرون، إنها تهدد: النظام الاجتماعي والأخلاق والدين. ورغم ذلك فلم يظهر القلق الحقيقي من محتوى الكتب حتى العشرية الثانية من القرن السادس عشر، حين اُنتبه لدورها كخميرة ثقافية تنويرية. ففي عام 1517 نشر الأسقف لوثر أطروحته في الإصلاح الديني وقام أصدقاؤه بنشرها عبر ألمانيا، وهنا أُكتشفت الإمكانات الهائلة التي توفرها هذه التقنية الجديدة، التي رأى فيها لوثر « أكبر وآخر هبة من الله». وبعد انتشار هذه الأطروحة طُلب أن تحرق كتبه، ومن حينها ظهرت البداية الحقيقية للرقابة، وبدأت التشريعات الرقابية تتوالى حتى بلغ الأمر في منتصف ذلك القرن أن كتب الإصلاح الديني أصبحت صعبة المنال، ونصبت المشانق للمخالفين والمحارق للكتب.

ورغم الانتباه للمفعول العكسي للرقابة كما قال الملك هنري الرابع بأن أفضل طريقة للقضاء على الكتب الممنوعة هو بالصمت بدلاً من الملاحقة التي كانت غالباً سبباً لزيادة نشرها، فإن تشريعات الرقابة في القرن السابع عشر تكثفت بالمراسيم والقوانين القمعية.. لكن هل أجدى ذلك نفعا؟

في عام 1649 أوقف كلود مورلو بباريس لطبعه نشرات هجائية متنوعة بينها «ستار الملكة الذي يقول كل شيء» ذات كلام بذيء وتحقيري. وحكم عليه بالشنق، وعندما سيق إلى ساحة الإعدام حرَّض الجمهور وكان بينهم العديد من عمال المكتبات والمطابع، فقامت الجموع بضرب الجنود بالحجارة، فتراجعوا وطردت الجلاد ورمت المشنقة في النهر وأعتقت السجين. وكان قبلها بشهر قد حُكم على كوتينيه بالإعدام شنقاً بعد أن قبض عليه بحالة تلبس بالجريمة وهو يخبئ نشرة «حسرات» في أحد الأقبية. ولأن المتهم كان مختبئاً فقد شُنقت دمية بدلاً منه، ثم خفض الحكم إلى الأشغال الشاقة، ثم عفي عنه لاحقا. بالطبع كان ذلك دعاية كبرى لنشرة حسرات، مما يشير إلى الدرجة التي بدأت بها الرقابة تتهافت.

في تلك الحماقات الرقابية التي عمَّت أوربا كانت هولندا (وسويسرا أحيانا) الملاذ الوحيد للكتب الممنوعة. كتب لارايني سنة 1670: «إن الحرية التي أعطيت في هولندا لطباعة كل أنواع الكتب في كل أنواع المواضيع ولكل الفرق الدينية، مع وضد كل دول أوربا، ساعدت كثيراً على ازدهار تجارة الكتب».. كأنها لبنان العالم العربي!

ومع بداية عصر التنوير (القرن الثامن عشر) ورغم أن 40% من سجناء الباستيل مدانين بجنح على علاقة بالكتاب، فإن الرقابة أظهرت عدم التماسك وعدم الفاعلية نتيجة تضخم نظام المطبوعات وامتلاؤه بالتناقضات. إذن، كان نظام الرقابة متخلفاً، فمدير المكتبة الفرنسية مالزيرب أوضح أن الرجل الذي لم يقرأ إلا الكتب المصرحة من الحكومة، يبقى متأخراً عن معاصريه قرناً من الزمن (إلى أية درجة ينطبق هذا القول على واقعنا!؟). وبرأي مالزيرب فالدين والأخلاق والسلطة الملكية هي فقط التي ينبغي أن تكون موضوع الرقابة.

وإذا كان يقال إن كل ما لم يكن مسموحاً به صراحة فهو ممنوع، ففي القرن الثامن عشر صار كل ما لم يكن ممنوعاً صراحة فهو مسموح. وهكذا ظهر مروجون للكتب الممنوعة منهم الفقراء الأميون الذين قال عنهم مرسييه إنهم كبش محرقة القمع، الذين لا يعرفون القراءة لكنهم يخدمون الحرية العامة دون علمهم لكسب كسرة الخبز.. ومنهم النقابيون ومنهم الدعاة المؤدلجون.

ثم انفجرت الثورة الفرنسية الجائعة للخبز والحرية (1789)، ونصت المادة 11 من إعلان حقوق الإنسان «أن حرية إيصال الأفكار والآراء هي أحد أثمن حقوق الإنسان، في استطاعة كل مواطن إذن الكلام والكتابة والطباعة بحرية، شرط أن يسأل عن سوء استعمال هذه الحرية في الحالات التي يحددها القانون». لكن الفكر المحافظ عبر عن قلقه من خطر هذه المادة على الدين والأخلاق وأمن المجتمع. وسوف يعود هذا الكلام المحافظ للبروز كثيراً خلال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لتبرير مبدأ الرقابة القمعية.

ورغم أن نابليون كان يتقزز من مفردة «الرقابة» لكي لا يتعسف موظف حكومي على الفكر ويشوه العبقرية، ففي حكمه (بداية القرن 19) ظهرت مراسيم رقابة قمعية، وإن لم تطبق بفعالية على أرض الواقع فعلى الأقل في القوانين. ومع أواخر ذلك القرن ظهرت تشريعات تُنهي الرقابة المسبقة على المطبوعات، وأصبحت الرقابة تأتي بعد الطبع تقص أجزاء وتعاقب بغرامات.

ولم ينج من هذه الرقابة الناعمة حتى الكتب الأدبية، التي اعتبرها فلوبير حماقة فادحة، يقول « ما هو جميل هو أخلاقي.. ماذا تخدم هذه الرقابة؟ أن نُلاحَق لمقال سياسي، ممكن؛ مع أنني أتحدى كل المحاكم بأن تبرهن لي عن فائدتها العملية، ولكن من أجل أشعار أو أدب. لا، هذا كثير!!».. وكثير من السلطات تنسى أنها حماقة لا جدوى منها ولكنها تفعلها!



alhebib@yahoo.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد