Al Jazirah NewsPaper Sunday  18/04/2010 G Issue 13716
الأحد 04 جمادى الأول 1431   العدد  13716
 
قسوة المصادفة
نينا خروشوفا *

 

في روسيا، يكمن خلف كل حدث سؤال: على من يقع اللوم؟.. وفي المأساة التي أودت بحياة الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي وخمسة وتسعين آخرين من قادة بولندا، نستطيع أن نجيب على ذلك السؤال بقدر عظيم من اليقين فيما يتصل بجانب واحد على الأقل: إن التاريخ هو المسؤول.

لقد بلغ هذا الحدث حداً من البشاعة يجعله يبدو وكأنه مزحة ثقيلة، أو مخطط شرير من تنفيذ جهاز الاستخبارات السوفيتية السابق (KGB)، أو مؤامرة مجنونة من أحد أفلام جيمس بوند - أو مزيج من الاحتمالات الثلاثة. بيد أن ذلك الحادث الذي باتت بولندا بالكامل على إثره في حداد لا يندرج تحت أيٍّ من هذه الأمور. فمأساة كهذه، التي تتحدى أي تفسير منطقي، لا تدلل إلا على أمر واحد: ألا وهو قسوة المصادفة. فماذا لو لم يَحُل الضباب دون هبوط الطائرة بأمان في مطار سمولينسك؟.. وماذا لو لم تكن الطائرة من طراز توبوليف -154 الروسية الصنع وتعمل منذ عشرين عاماً، بل كانت من نموذج أحدث وأكثر أماناً؟ وماذا لو كان الطيار البولندي قد أطاع ضابط مراقبة الحركة الجوية الروسي الذي حاول إعادة توجيه الطائرة إلى موسكو أو مينسك؟.

من المؤسف أن قسوة المصادفة تكمن أيضاً في قلب قرون من انعدام الثقة بين بولندا وروسيا. والمفارقة العجيبة هنا (إن كان في الأمر أي مفارقة على الإطلاق) أن هذه المأساة جاءت في وقت حيث بدا الأمر وكأن انعدام الثقة بدأ في الانحسار ليفسح المجال أخيراً أمام علاقات أفضل وأكثر جدية وقدر أعظم من التفاهم بين البلدين.

فبعد سبعين عاماً من الإنكار بدت القيادات الروسية (إن لم يكن القسم الأعظم من المواطنين الروس العاديين) على استعداد للاعتراف بأن جهاز الأمن الداخلي في عهد ستالين (سلف الKGB) ارتكب مذبحة راح ضحيتها أكثر من عشرين ألف من الضباط والمفكرين ورجال الدين البولنديين في غابة كاتين في عام 1940 حتى أن رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتن، الذي كان ضابطاً بجهاز الاستخبارات السوفييتية السابق (KGB)، دعا نظيره البولندي دونالد تاسك إلى إحياء ذكرى هذه المأساة في احتفال مشترك.

ولكن كاتشينسكي، وهو أحد أعضاء منظمة تضامن الذين كانوا مدفوعين برغبتهم الشديدة في الإطاحة بالنظام الشيوعي في الثمانينيات، كان أقل ثقة من تاسك في الروس. ولقد شَكَّل وفداً خاصاً لزيارة كاتين وتساءل ساخراً ما إذا كان الروس قد يمنحونه تأشيرة الدخول. وبالطبع، لم توجه الدعوي إلى أيٍّ من الروس.

حين نصح ضباط مراقبة الحركة الجوية قائدة الطائرة الرئاسية (ومن عجيب المفارقات مرة أخرى أنها سوفييتية الصنع) بعدم الهبوط في الضباب الكثيف، فمن الواضح أنه -أو ربما الرئيس ذاته- لم يكن واثقاً في استعداد الروس لتقديم نصيحة صادقة. بل وربما تساءل ركاب الطائرة ما إذا كان رجال جهاز الاستخبارات السوفييتي السابقين الماكرين المحيطين برئيس الوزراء بوتن يريدون ببساطة تحويل احتفال كاتشينسكي بذكرى مذبحة كاتين إلى مهزلة.

من المعروف أن تاريخ الشكوك والخلافات الروسية البولندية يعود إلى القرن السادس عشر حين كانت بولندا أقوى كثيراً من روسيا؛ والواقع أن أراضي الدوقية العظمى في موسكو كانت عبارة عن مستنقع من المياه الراكدة. وعلى مر القرون نشبت بين البلدين حروب بدأها كل من الطرفين، ومحاولات تقسيم بولندا التي نفذها الروس أعقبتها محاولات إضفاء الصبغة الروسية على بولندا، إلى جانب المحاولات التي بذلتها الإمبراطورية الروسية المسيحية الأرثوذكسية لفرض سيطرتها على بولندا الكاثوليكية الخادعة ذات التوجهات الأوروبية. واندلعت الثورة البلشفية في عام 1917، فرفض البولنديون الانضمام إليها، ثم أحرز المارشال جوزيف بيلسودسكي نصراً عسكرياً أسطورياً على الجيش الأحمر عند بوابات وارسو في عام 1920م. وطوال سنوات ما بين الحربين العالميتين كانت بولندا والنظام السوفييتي الوليد على خلاف لا ينقطع.

وحين وقَّع ستالين على اتفاق مولوتوف- ريبنتروب مع ألمانيا النازية في عام 1939، سنحت له الفرصة لغزو بولندا. وكانت مذبحة كاتين نتيجة مباشرة، حيث أمر ستالين بالقتل الجماعي لأهل النخبة في بولندا بهدف قطع رأس المجتمع البولندي وبالتالي جعله أكثر إذعاناً.

وكانت مذبحة كاتين أيضاً بمثابة الفرصة للسوفييت لقطع العلاقات مع حكومة الحرب البولندية في منفاها في لندن. وبسبب رفض قادة بولندا تبرئة الروس، اتهم ستالين البولنديين بالتعاون مع الألمان في محاولة تحويل المسؤولية عن الجرائم النازية إلى الروس. وبعد فترة وجيزة ترسخت فكرة تأسيس نظام عميل في وارسو.

الواقع أن العداء بين بولندا وروسيا ظل في ذروته طيلة القرن العشرين، الأمر الذي تجلى في السياسة بقدر ما تجلى على الصعيد الثقافي أيضاً. وكان ذلك العداء سبباً في استمرار نمط قديم أيضاً. فكان ألكسندر بوشكين، ونيكولاي جوجول، وفيودور دوستويفسكي من المتشككين في البولنديين، حتى أنهم وصفوهم بالبرود والتباعد والتلاعب، وكانوا يرون أن بولندا تميل دوماً إلى الانحياز للغرب، بدلاً من الوقوف في صف أشقائها السلافيين. ولقد قطع بوشكين علاقة الصداقة التي كانت تربطه بالشاعر والكاتب البولندي آدم ميكيفيتش بعد مشاعر المرارة والخلاف التي دبت بينهما بسبب العصيان البولندي المسلح على حكم القيصر في عام 1830م.

والواقع أن العداوة بين الطرفين تعمقت إلى الحد الذي جعل روسيا -حتى بعد أن تخلص البلدان من الشيوعية- تفكر في إلغاء عيد احتفالها بالثورة البلشفية في السابع من نوفمبر- تشرين الثاني والاستعاضة عنه بعيد الرابع من نوفمبر - تشرين الثاني، ذكرى انتصار النبلاء الروس في عام 1612 على الاحتلال البولندي لموسكو والذي دام لفترة وجيزة تحت قيادة الملك البولندي سيجيسموند.

والآن تزعم الأحاديث في كل من وارسو وموسكو أن مأساة كاتين الثانية ربما تؤذن ببداية عصر جديد من العلاقات الثنائية. وقد يكون الأمر كذلك، ولكن كما قال الكاتب البولندي ستانيسلاف جيرزي ليك: «يمكنكم أن تغمض عينيك عن الحقيقة، ولكن ليس الذكريات».

* كاتبة ومحاضرة روسية
خاص بـ(الجزيرة)



 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد