Al Jazirah NewsPaper Sunday  25/04/2010 G Issue 13723
الأحد 11 جمادى الأول 1431   العدد  13723
 
«المطاوع».. عاشق مكة..!
د. عبد الله مناع

 

إذا صدق ما قاله الكاتب الكولومبي الإنساني الجميل: «غابرييل غارسيا مركيز» صاحب رواية «مائة عام من العزلة» - التي كتبها في اثنين وعشرين عاماً فمنحته جائزة نوبل للآداب (عام 1982م) وهو في الرابعة والخمسين من

عمره - في «مذكراته» أو سيرة حياته التي سردها بروائية مفحمة مدهشة محيرة، وبعنوان أكثر إدهاشاً: (نعيشها.. لنرويها).. من أن «الصحافة»، إنما يتعلمها أبناؤها (الصحفيون) في الدور الصحفية نفسها.. وبين ضجيج مطابعها وروائح أحبارها، ثم عاد ليؤكد ما قاله وعلى نحو تطبيقي تجريبي عندما قال ب «إن الرواية والتحقيق الصحفي.. ابنان لأم واحدة».. فإن الأستاذ حامد مطاوع رئيس تحرير صحيفة الندوة الأبرز والأطول عمراً والأفضل دون شك بين رؤساء تحريرها الذين تعاقبوا عليها.. (باستثناء الصحفي الشاب هشام كعكي الذي ترأس تحريرها لفترة قصيرة وكان واعداً.. وكان معوضاً) ربما يكون هو آخر أجيال الصحفيين الذين تعلموا الصحافة في دورها، بعد أن أخذت الجامعات وكليات الإعلام ومعاهده على عاتقها.. مهمة تدريس الصحافة وتعليمها دون نجاح ملفت على مستوى جامعاتنا الوطنية..!!

ف «غبراييل» نفسه - الذي قال قولته تلك - بدأ حياته طفلاً عاملاً في «قسم التجليد» بإحدى مطابع مدينة «أركاتاكا» مسقط رأسه.. ف «موزعاً» للنشرات الإعلامية في شوارعها.. ف «مخبراً صحفياً».. ف «كاتب» تحقيقات صحفية.. ف «صحفياً» قيادياً يعول عليه في التغطيات الصحفية الكبرى.. عندما وجد نفسه منتدباً من قبل صحيفته (الاسباكتاتور) لتغطية أخبار أول «قمة» سياسية يعقدها زعماء الحرب العالمية الثانية المنتصرون في «جنيف» (إيزنهاور وخروتشوف، وتشرشل، وديجول).. جنباً إلى جنب مع كبار صحفيي العالم قاطبة!!

أما الأستاذ حامد - ابن بلاط الصحافة وربما آخر خريجيه - الذي غيبه الموت بين غمضة عين وانتباهتها، وهو يتهيأ لأداء الصلاة عصر يوم الثلاثاء (30 ربيع الأول 1431ه - 16 مارس 2010م).. بعد أن أعد كرسيه الذي اعتاد الجلوس عليه عند السجود.. ب «الخطأ»، فأرادت إحدى كريماته تعديله.. حتى يواجه القبلة، وهي تحاول مساعدته في الانتقال إلى مقعد آخر.. بعد أن عجزت قدماه فجأة عن حمله، فما أن انتهت من تعديل كرسيه.. إلا وكان «الأستاذ» قد أسلم الروح ل «بارئها»، وسط ذهولها وعدم تصديقها.. وتخبطها، فتخبط والدتها (حرمه) وشقيقاتها.. وشقيقها الوحيد «وهاج» الذي بقي إلى جواره في «مكة» ينتظر إنهاء آخر سنوات دراسته الثانوية، ليلحق بشقيقيه «أنمار» و»قيصر».. في رحلتهما العلمية الطويلة، فكانت صلاته تلك التي استعد لها ولم يتمها.. وكأنها آخر نبضة إيمان ينبض بها قلبه قبيل وداعه ل «الحياة»!!... فقد اختلفت بداياته في بلاط الصحافة عن ذلك.. فلم يبدأ ب «قسم التجليد» ولا ب «التوزيع» ولا بدور «المخبر الصحفي» الذي يطوف الدوائر والمؤسسات بحثاً عن «خبر» يأتي به إلى صحيفته (البلاد السعودية).. عندما كانت تقيم في «مكة»، ويتولى رئاسة تحريرها نجم الصحافة الأكبر آنذاك: الأستاذ عبدالله عريف، ولكنه بدأ بعد تخرجه من أرقى مدارس تلك الأيام: «مدرسة تحضير البعثات».. بالعمل أميناً ل «الصندوق» في الجريدة، ليتعلم في أجوائها الصحفية وخلال أعوام قليلة.. كل مفردات العمل الصحفي من «الخبر» و»المانشيت».. إلى «التعليق» و»التحقيق»، ولكنه سرعان ما تحول.. إلى كاتب صحفي، يرقى ما يكتبه لأن يكون على الصفحة الأولى... وفي الجهة المقابلة ل «همسات» العريف، التي كان يعشقها وينتظرها ويقرأها كل قراء الصحيفة.. لتشفي «غليلهم»..!! كان عموده الصحفي آنذاك.. يحمل عنواناً هادئاً موحياً ب «الأناة» والتمهل والتتبع هو: «من المنبع.. إلى المصب»، لتبقى موحيات ذلك العنوان فيما بعد.. أبرز صفات الأستاذ حامد مطاوع: صحفياً وكاتباً ورئيساً للتحرير.. والتي ستؤهله إلى جانب ملكاته الشخصية، وعلاقاته التي استطاع أن يقيمها مع كبارات رجال الدولة، الذين كانوا لا ينقطعون عن مكة المكرمة - «العاصمة» آنذاك.. طوال أيام العام - لما هو «أكبر».. عندما تحين لحظته.

ولم تكن تلك اللحظة ببعيدة.. مصادفة أو من حسن طالعه، فمع دمج صحيفتي «عرفات» الأسبوعية و»البلاد السعودية» اليومية (عام 1378ه - 1958م) تحت مسمى جديد - اقترحه شيخ الصحافة الأول.. الأستاذ أحمد السباعي - هو «البلاد»، وتزامن تعيين عبدالله عريف أميناً ل «العاصمة»، وانتقال الجريدة تبعاً لذلك إلى «جدة» برئاسة تحرير حسن قزاز.. جاءت اللحظة، ليتم تعيين الأستاذ حامد مديراً لإدارة الجريدة - في عصرها الجديد _ فكان عليه أن ينتقل إلى جدة, ولكن حبه القديم لمكة، وعشقه ل «حياتها»، وشغفه ب «حاراتها»، وتعلقه بأجوائها الدينية العطرة.. كانت تحول بينه وبين انتقاله «مكانياً» إلى جدة، فآثر البقاء بين أحضان عشقه القديم والأصيل (مكة) على أن يتحمل القدوم صباحاً إلى جدة والعودة منها عصراً.. إلى مكة، وعلى مدار أعوام طوال.. حتى جاءت لحظة ميلاد «المؤسسات الصحفية» وانتهاء عهد - ما سمي فيما بعد - ب «صحافة الأفراد».. في عام 1383ه - 1964م - لتقوم مؤسسة البلاد ب «محمد حسن فقي» رئيساً لمجلس إدارتها، و»عبدالمجيد شبكشي» رئيساً لتحريرها، وهي تستبقي الأستاذ حامد مطاوع.. مديراً لإدارتها، وإلى أن سلم موقعه إلى الكاتب الممتع والمتعب السيد يس طه، لتستقبله آنذاك صحيفة «الندوة» الجديدة.. التي قامت بعد دمج «ندوة» أحمد السباعي إلى «حراء» الأستاذين الشقيقين صالح وأحمد محمد جمال تحت مظلة شركة مكة للطباعة والإعلام: مديراً لإدارة جريدتها.. إلى جانب «العريف» رئيساً لمجلس إدارتها والأستاذ محمد حسين زيدان لرئاسة تحريرها، ولكن ولأن الأستاذ الزيدان الموسوعي ثقافة، والمشَّاء فلسفة وحواراً.. لم يطق الجلوس على مكتب رئيس التحرير، وتلقي الأخبار.. والهواتف ممن هب ودب، فقد آثر ترك الرئاسة.. ليُكلف الأستاذ المطاوع بخلافته «مسؤولاً» عن التحرير لعام، ثم رئيساً لتحرير الندوة.. من عام 1384ه.. وإلى عام 1406ه.. أي إلى ما يزيد عن عشرين عاماً، قدم خلالها «ندوة» عربية الروح.. إسلامية الانتماء.. منافسة على مستوى الخبر العالمي لكبريات الصحف العربية وأمهاتها مع انفتاح على الأقلام الشابة الواعدة وطروحاتها التي يتفق ولا يتفق معها، فكان نجاحه.. مدعاة إلى بقائه واستمراره لولا وشايات الواشين، وصراع المصالح، وذلك الشغب الإداري الذي عرف عن المجتمع المكي، الذي أزاحه - في النهاية - عن موقعه.. المحتاج إليه، إلا أن خروجه من رئاسة تحرير «الندوة» لم ينل من عزيمته.. ولا من قيمته ومكانته واعتزازه بنفسه ليصبح واحداً من رموز مكة ورجالاتها، وإن كان قد رفع قلمه عن صحيفتها.. واتجه به إلى جريدة «عكاظ» كاتباً سياسياً أسبوعياً فيها.. دون أن يتخلى عن تختيمته الشهيرة: «لمحة إنسانية» التي يذيل بها مقالاته السياسية، وإن تخلى بتركه «الندوة» عن مقاله الشعبي الأسبوعي على صفحتها الأخيرة المعروف ب «المراقب المتنقل» الذي كان يوقعه ب «ابن حسن»..!!

لقد كنت.. في فترات من ذلك الزمن قريباً من «الندوة»: «قارئاً» لها، و»كاتباً» فيها لفترة لم تطل.. لكنني كنت بعيداً عن الأستاذ حامد نفسه، إلا من تلك المناسبات العامة والخاصة.. التي كانت تجمعني.. به في جدة كثيراً وفي مكة قليلاً.. فكنت أرى أناقته الباذخة، وأقلامه الفاخرة، وتشكيلة عباءاته المتميزة في ألوانها، إلا أنني كنت أتوقف طويلاً عند صمته الدائم.. دون أن أجد تفسيراً، لكن بعض أبالسة المجتمع المكي كانوا يقدمون تفسيراً ضاحكاً غير موضوعي لصمته الطويل في المجالس.. بأنه «صمت مراوغ»، أو صمت استدراجي على وجه الدقة.. يستهدف استدراج جلسائه.. فإذا وجه له أحدهم حديثاً في كلمة أو كلمتين، تدفق «الأستاذ» في الرد عليه لعشر وربما لخمس عشرة دقيقة أو يزيد.. ودون أن يتوقف!! وهم يضيفون - بما يؤكد عدم موضوعيتهم - بأنه وهو من مدخني «الشيشة الجراك» كأكثرية أهل الحجاز ومكة على وجه الخصوص.. إلا أنه لا يطلب «لَيْ.. الجراك» من أحد، فإذا قدم له أحدهم «لي.. الجراك» باعتبار أن «الكيف.. مناقلة» كما يقول المثل الشعبي، أخذه ولم يعده إليه.. حتى نهاية الجلسة!!

في ظل هذا الصمت الدائم والطويل الذي عرف به.. وعرف عنه، شاءت ظروف إحدى القمم الخليجية.. أن تجمعني به صحفياً، فكان أن اقترحت عليه في أحد أيامها.. أن نقوم برحلة من «أبو ظبي» إلى «الشارقة» بالسيارة.. للتسوق وشراء ما قد نجده في مكتباتها من كتب تهمنا، فرحب، لتأخذنا السيارة.. في مشوار طويل يزيد عن سبعين أو ثمانين كيلاً.. فكانت فرصتي في شده إلى الحديث حتى لا تستولي علينا مشاهد الطريق بين الإمارتين التي كنا نراها لأول مرة، فيرين علينا الصمت.. الذي كنت أريد كسره في تلك الرحلة، فأخذت المبادرة بالحديث.. لأسأله عن «مكة» وعن «الندوة».. وعن.. وعن.. إلى أن سألته عن غرائب ما عاشه وشاهده في حياته صحفياً وإنسانياً، ففاجأني وأمتعني بقصتين.. أو حكايتين لا ترويان، ولكن.. لإحداهما نهاية يمكن أن تروى وهي التي يبدو أن الأستاذ كان يرددها على عامة جلسائه، والتي تقول: بأن رجلاً في أحد أحياء مكة.. فقد بقرته، فأخذ يبحث عنها إلى أن وجدها بمنزل أحد جيرانه.. فتوجه إليه ليستردها منه، ولكنه فوجئ بأن صاحب المنزل يرفض تسليمها له.. بل ويدعي أنه «اصطادها»..؟

فلما أعيت الحيلة صاحب البقرة.. قرر الذهاب إلى «المحكمة» لتفصل في الأمر، فاستدعى القاضي.. الطرفين ليمثلا أمامه، عندها سأل صاحب الدعوى: ما الذي حدث..؟

فقال: اختفت بقرتي منذ يومين.. فأخذت أبحث عنها في أزقة الحارة ودروبها إلى أن وجدتها بمنزل أخي هذا، فتقدمت منه لأشكره.. لأنه حافظ عليها، ولأسأله أن يعيدها إليَّ، ولكنه فاجأني عندما قال بأن البقرة أصبحت ملكاً له بعد أن اصطادها..؟

هنا.. تبسم القاضي وهو يسأل المدعى عليه: أصحيح ما قاله أخاك..؟

قال: نعم.

فقال القاضي: أمعقول أن تدعي بأنك اصطدت بقرته..؟

- فلم يجب.

فقال القاضي: ألا تفهم.. أن الصيد إنما يكون للطيور وللغزلان وأمثالهما في البراري وليس ل «بقرة» في حارة..؟

فلم يجب، عندها رفع القاضي الجلسة للاستراحة.. لعل المدعى عليه يثوب خلالها إلى رشده، ويعود عن ادعائه.. بأنه اصطاد البقرة..

مع استئناف الجلسة.. عاد القاضي إلى تذكير المدعى عليه قائلاً: ألا تفهم بأن ادعاءك باصطياد بقرته.. أمر لا يقبل به عاقل ولا مجنون..؟

هنا صمت المدعى عليه طويلاً، ثم اقترب من القاضي.. وهو يقول له هامساً: يا سيدي.. لو أنني فهمت لضاعت البقرة..؟

فتعالت ضحكاتي.. حتى تناثرت خارج السيارة.. بينما كان الأستاذ يستعد لرواية حكايته الثانية.

ومضت الأيام والسنون.. ليفاجئ الجميع نبأ رحيل الأستاذ حامد دون أدنى مقدمات.. وعبر ميتة بدت سهلة له وعليه، وإن كانت صاعقة على كريمته التي مات بين يديها.. وعلى حرمه وبقية أبنائه وبناته وأفراد أسرته، وعلى كل أصدقائه وأحبائه وزملائه وقرائه.. كما كانت وبذات القدر صعقاً ورعباً على شخصي، فقد كنت أعد - ساعة وفاته دون أن أدري - سيناريو ذهابي مع مجموعة من الأصدقاء إلى بيته في اليوم التالي في حي الزهراء.. تلبية لدعوة العشاء التي وجهها إليّ وإلى الأصدقاء عن طريق ابنيه (الدكتور أنمار، والدكتور قيصر)، للحديث حول كتابة السيرة الذاتية.. دعماً لهما في حثه على كتابة سيرته التي كان يمتنع عنها بحجة أن ما يعرفه أكثر مما يستطيع كتابته!

لقد لبيت دعوته في يومها.. ولكن ليس للعشاء، بل لتقديم واجب العزاء فيه.. معتذراً عن «عشاء» ما كان يصح أن نتناوله في غيبة (مضيفه) الذي أصبح تحت الثرى..!!

رحم الله الأستاذ حامد.. الذي مهما اختلف حوله المختلفون فإنهم سيتفقون في النهاية.. بأنه كان أحد رجالات مكة ورموزها، الذين أحبوها وعشقوها ودافعوا ونافحوا عنها.. وكانت في قلبه وعقله على الدوام.

****




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد