Al Jazirah NewsPaper Monday  03/05/2010 G Issue 13731
الأثنين 19 جمادى الأول 1431   العدد  13731
 
بين الكلمات
بين النظرية وخلل التطبيق..
عبد العزيز السماري

 

يعتبر مأزق تفاقم الفجوة بين النظرية والتطبيق إشكالية إسلامية، فإطلاق المفاهيم المثالية الإسلامية في خطب الوعظ، وعلى صفحات الجريدة، وفي الدعايات الإعلامية أصبح ظاهرة اجتماعية، وكان آخرها استخدام مصطلح الشريعة للترويج عن المنتجات المصرفية، وهو ما قد يؤدي إلى التغرير بالمستهلك المحتاج، ما يجعل من دخله الشهري صيدا سهلا للبنك، ولعل الصورة الاستهلاكية الحالية نتيجة لكبرياء وسطحية العالم المجتهد في العصر الحالي، والذي عجز عن تقديم الحلول المتطابقة مع جوهر النظرية، واكتفى بصبغها باللون الأخضر، ثم بيعها في السوق على أنها منتج إسلامي، وهو ما اعتاد عليه الإنسان المسلم، عندما أصبح في وضع غير واعٍ بما يحدث، واكتفى بترديد مثاليات ووعظ بعيدا عن حقيقة الواقع.

فالإسلام أجاز الملكية الفردية نظرياً في العصور الأولى، لكن لسببٍ ما لم تتطور نظرية رأس المال في أوج العمران الإسلامي، ولم تزدهر الأمصار اقتصاديا، ولم يكن للقوى الاقتصادية مكانة في زمن الإمبراطورية الإسلامية في العصور الوسطى، بالرغم من التشابه الكبير بين الرؤية الإسلامية للمال، والنظرية «الكالفينية». والكالفينية نسبة إلى المصلح الديني كالفن الذي يدعو إلى التجارة وتراكم المال، ومنه خرجت نظرية رأس المال في الغرب، ولم يلحق»الشرق» المسلم بتطبيقات نظرية رأس المال وتطور نظم وأساليب الملكية الفردية إلا في القرن العشرين..

وقد صاحب بعض تطبيقاته انفتاح وتحرر اقتصادي، لكن لا زال يعيش في ظل الإقطاع..

كذلك يظهر ذلك في سوق التأمين، والذي قدم نفسه للسوق المحلية من خلال نظرية التكافل الاجتماعي الإسلامي، لكن مضمونه يهدف للربح المادي، وكان شديد البعد عن ذلك المنهج، والتكافل الاجتماعي هو أحد أهم أطروحات الإسلام»النظرية» لحل مشكلات الإنسان اليومية، والفكر الإسلامي يزخر بتعريفات وشرح واف لأهدافه الإنسانية، ومنها أن يكون أفراد المجتمع مشاركين في المحافظة على المصالح العامة والخاصة ودفع المفاسد والأضرار المادية والمعنوية بحيث يشعر كل فرد أنه مسؤول وراع، وتهدف تلك المبادئ العظيمة إلى جعل المجتمع يعيش ضمن حياة التكاتف الاجتماعية، وذلك بالحرص على المنافع العامة، ودفع الأضرار..

قدم الإسلام تكافلا مزدوجا بين الفرد والجماعة، فأوجب على كل منهما التزامات تجاه الآخر، ومازج بين المصلحة الفردية، والمصلحة العامة بحيث يكون تحقيق المصلحة الخاصة مكملا للمصلحة الفردية والمصلحة العامة متضمنا لمصلحة الفرد؛ فالفرد في المجتمع المسلم مسؤول تضامنيا عن حفظ النظام العام، كما أن الفرد مأمور بإجادة أدائه الاجتماعي لكي يكون وجوده فعالا ومؤثرا في المجتمع الذي يعيش فيه..، وأيضاً لأسباب أخرى، وبالرغم من وجود أصل المقصد الشرعي السامي في الإسلام، تأخر كثيرا إدراك تطبيقات التكافل الإنساني، وتم استغلالها من أجل الكسب المادي من خلال شركات التأمين..

يتم الترويج للشركات التجارية على أنه أحد أنواع التكافلية الإسلامية، ويتضمن إعلان مبادئها التزامها بترسيخ قيم جليلة كالتعاون والتكافل الاجتماعي، وأن المبدأ التعاوني للتأمين لا يقوم على مبدأ الربح كأساس، بل يعمل على مواجهة الأخطار في المقام الأول، إذ يتعاون المشتركون فيما بينهم وفقاً لهذا المبدأ على تعويض المتضرر،لكن ذلك الإعلان لم يعكس حقيقة الأمر، فالهدف كان الأرباح المادية، ولم يكن الشعار الإسلامي إلا من أجل الربح المادي، ويظهر ذلك جلياً في ارتفاع أسعار التأمين الصحي..، بينما تختلف التجربة الغربية في ذلك إذ تلتزم التجربة الأوربية في التأمين الصحي الحكومي بروح التكافل الاجتماعي..،كذلك يدل تراجع المشرع الأمريكي عن تعميم التأمين التجاري الصحي إلى نظام التأمين الاجتماعي للغالبية العظمى من المجتمع دليل على فشل تحويل التأمين الصحي إلى سلعة تجارية.

يظهر اختلال النظرية والتطبيق أيضاً في صورة واضحة في مسائل إجازة بعض المعاملات التجارية في البنوك، وفي حجم القروض الشخصية التي قدمتها البنوك السعودية في العام الماضي، والتي بلغت نحو 180 مليار ريال للأفراد مقابل تحويل مرتباتهم إلى البنوك المحلية..

ويبرز السؤال الأهم عن المبررات الشرعية لإجازة مثل هذه المعاملات؟..، والتي تؤدي إلى هلاك دخل الفرد وضياعه، ولنا أن نتساءل عن الغرض من حصرها في زاوية تحويل مكاسب الأفراد إلى مادة استهلاكية؟.. ولماذا لا تنطلق الرؤى الشرعية لتحقيق المقاصد في مسار تنمية مدخرات الفرد لا استهلاكها..؟..

إن احتلال معاملات التطبيق المنهجي، وظهور تبعات سلبية نتيجة اجتهادات فردية، يتطلب تأسيس مؤسسات شرعية مؤهلة وقادرة على الاجتهاد لتفكيك مصالح الفتاوي الفردية في المجتمع، ورصد مساوئها وتأثيراتها على مصالح المجتمع والفرد المسلم،وتقوم أيضا على مراقبة نتائج تطبيقات المنهج في الواقع، ودراسة كيفية الوصول إلى أهداف المقاصد الشرعية السامية..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد