Al Jazirah NewsPaper Monday  03/05/2010 G Issue 13731
الأثنين 19 جمادى الأول 1431   العدد  13731
 
إلى الأمام
في اليوم الثالث سلموها جثة هامدة
د. جاسر عبد الله الحربش

 

هذه الحكاية إعادة صياغة لمأساة حقيقية لطفلة من منطقة القبائل في أحد الأقطار الإسلامية الجبلية، تناقلتها الصحف قبل نحو سنتين على نطاق محلي وعالمي.

ساري طفلة عمرها بين ثماني وتسع، وجهها صغير مدور وعيناها كبيرة تملأ نصف وجهها الصغير وتحدق باندهاش وأمل في العالم من حولها، وأسنانها اللبنية لم تسقط كلها بعد. كانت ساري بهذه المواصفات مجرد طفلة واحدة بين ست أخوات شقيقات، ومجرد واحدة بين ملايين أخريات يولدن كل يوم في مجتمعات الفقر والجهل والمرض. في ذلك اليوم تلبسها أمها ثوب المناسبات السعيدة الوحيد وتضمها إلى صدرها، تقبلها وتسلمها إلى والدها، فيمسك بيدها ويمضيان إلى خارج المنزل. والدتها لا تعلم إلا أنهما سوف يذهبان لزيارة عمها؛ ووالدها يخفي أنه يزفها هذا اليوم إلى عجوز ستيني مقابل دين عليه لم يستطع تسديده.

يضربان في غبار الطريق، هو بقدمين كبيرتين وحذاء بالٍ، وهي بقدمين صغيرتين في نعلٍ بلاستيكي أحمر تحثهما للحاق بخطوات أبيها الواسعة. ترفع وجهها المدور من آنٍ إلى آخر وتنظر بعينيها الواسعتين إلى وجه أبيها فتلمح دموعاً كبيرة وكثيرة تفر دون انقطاع من عينيه وتصب في غبار الطريق. تظن بعقلها الصغير أن والدها يتألم من بطنه فتحس بآلامه في بطنها إشفاقاً عليه، لكن ما بوالدها كان أكبر من آلام الدنيا كلها.. بركان الحنان وقهر الدين ولعنة الفقر وتزاحم البنيات الجائعات في البيت الكئيب. هذه الذئاب كلها تجمعت عليه تنهش في أحشائه.

بعد نصف نهار تلوح أمامهما المنازل الطينية للقرية الأخرى، قرية العجوز الدائن وساري تظن أن بيت عمها هناك. على مشارف القرية يجلس الأب على حجر كبير ويضم بكفيه الكبيرتين كتفي صغيرته ذات الوجه المدور والعينين الواسعتين ويكذب عليها. بنيتي الحبيبة ساري، يبدو أنني قد أضعت الطريق إلى قرية عمك، لكنني أعرف في هذه القرية أمامنا رجلاً طيباً سوف تقضين هذه الليلة عنده وأعود أنا إلى البيت لأطمئن على أمك وأخواتك فهم يخافون لوحدهم هناك. غداً أو بعد غد أعود إليك وآخذك معي إلى المنزل. تشهق البنية ساري وتطلق نحيباً تنفطر له قلوب الطيور والأرانب والخراف وكل الكائنات التي تسمعها من بعيد. كل الكائنات تنفطر قلوبها لبكاء الأطفال ما عدا الإنسان فإن قلبه لا ينفطر. يكاد الأب أن ينكص على عقبيه بابنته لكنه يتذكر الدين والسجن وضياع الأسرة كلها إذا دخل السجن وأكلتها الذئاب البشرية. يكفكف دموعها ما استطاع ويحملها على ذراعه بقية الطريق. حين يصلان البيت المنشود يدق الباب بيده اليسرى.

هنا أتوقف عن الاستمرار في القصة لأنني أشعر بالاختناق. كلما أستطيع قوله هو أن ساري تلك الليلة ضمت رأسها بيديها الصغيرتين باكية متساءلة: يا ربي لماذا تخلوا كلهم عني وتركوني أبكي لوحدي؟

بعد ثلاثة أيام جاء رجل من القرية الأخرى وسلم ذات الوجه المدور جثة هامدة ملفوفة في خرقة بيضاء.

إن اكتشفتم بعض التشابه فيما جرى هناك وقد يجري هنا فهو مجرد تشابه أحداث غير مقصود.




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد