الأيام ما خلَّن أحد ما كوَنَّه |
ومن لا كوَنَّه عابيات اعباه |
ابن عبدالرحيم (راعي أشيقر)
|
البيت من قصيدة شهيرة قيلت قبل ما يزيد على ثلاثمائة عام إثر قصة أليمة تمثل مشهدا من مشاهد الظلم الاجتماعي العام. والأيام في البيت المقصود بها المصائب, وفي الشعر العربي يُعبّر عنها بالليالي؛ فقد قيل:
|
والليالي من الزمان حُبالى |
مثقلاتٌ يلِدْنَ كلَّ عجيبة |
والتعبير عن المصائب بالأيام أسلوب بلاغي من نوع المجاز المرسل, علاقته المحلية, فالمصائب تحدث في الأيام والليالي، وهما محتوى الدهر وتفاصيل الزمان. كوَنَّه: آلمنَه وأوجعنَه, وعبر عن هذا المعنى بالكي؛ لأن ألم الكي أشد أنواع الألم؛ ولذلك توعد المولى سبحانه وتعالى المشركين والكافرين بنار جهنم. عابيات: مستعدات للإغارة عليه وإصابته. اعباه: نصيبه وقسمته, فكأن الزمان يكيل للناس المصائب كيلا. و»عابيات عباه» تعبير مجازي فيه استعارة مكنية, وفيه من الرعب موجات تقشعر لها الأبدان. يقول: كل الناس تعرضوا للمصائب, ومن لم يُصب منهم من قبل فسيصاب عاجلا أو آجلا!
|
قلت: وهذا هو حال الدنيا من نشأة الخليقة, وهذه هي حكمة المولى جل شأنه, وقد ذم الشعراء - قديما وحديثا - الدنيا, وحذَّروا من الركون إليها, والانخداع بزينتها وبهرجها, قال الشاعر:
|
يا خاطب الدنيا الدنية إنها |
شرك الردى.. وقرارة الأكدار |
دار إذا ما أضحكت في يومها |
أبكت غدا.. تبّاً لها من دار |
|
هي الأمور كما شاهدتها دوَلٌ |
من سره زمن ساءته أزمان |
|
واعمل وتلقى وافهم العلم بالقيس |
ودنياك لو زانت تراها نقومي |
تضحك وتخفي لك خفي الهناديس |
تفطر لنا يومٍ ويومٍ تصومي |
|
أجل عنك ما الدنيا بيلحق لها تالي |
غرور ترد الحزب الأول على التالي |
قبوله دبور لو لحيٍّ تزخرفت |
فهي مثل حلم الليل يصبح وهو خالي |
إلى اقبل قبوله ساعي فوق مرجل |
دبوره ركب من سبّق العزم خيّالي |
وفيما يأتي قصة طريفة تتعلق ببيت راعي أشيقر, ذكرها لي الزميل والصديق الأستاذ محمد البراهيم الريس - حفظه الله - قبل أعوام عدة, رواية عن والده المرحوم إبراهيم الريس (توفي - رحمه الله - عام 1411هـ، وهو مؤذن الجامع الكبير في عنيزة لثمانين عاما!), حيث قال له: في سنوات خلت كنت أضطجع أيام الشتاء قبيل الظهر في طاية المسجد؛ طلبا لدفء الشمس, وانتظارا لحلول وقت الأذان. وفي يوم من الأيام كان الساني في مزرعة الربيعية القريبة من المسجد, يغني وهو يسوق البعير في (المنحات) على عادة السناة ورعاة الإبل, ويكرر في أثناء تردده في المنحات الشطر الآتي:
|
(كم واحد سود الليالي كونّه)
|
فشد انتباهي, وأثار فضولي, خصوصا أن محتوى الشطر يتحدث عن المصائب. كان العامل يردد هذا الشطر وأنا أنتظر على أحر من الجمر بقية البيت, لكنه أطال في الترديد, وأنا أزداد حماسة وتطلعا لسماع التالي .. وأخيرا قال:
|
(ومن لا كونّه عابيات اعباه)!
|
فلما سمعت الشطر واستوعبت معناه انتفضت من الرعب, وقلت في نفسي: (خف من ذي)!!
|
|