Al Jazirah NewsPaper Friday  18/06/2010 G Issue 13777
الجمعة 06 رجب 1431   العدد  13777
 
الذكاء المفرط
مي عبدالعزيز عبدالله السديري

 

هناك الكثيرون الذين أصبحوا عبيداً لأنانيتهم التي صوَّرت لهم أنهم فوق بني البشر، واخترعت لهم كذبة فصدَّقوها، تلك بأنَّهم لا مثيل لهم ولا يجاريهم في كفاءاتهم أحد، وهم معجبون بأنفسهم ويعتقدون أنهم على خلق كريم، وأنهم في غاية الاستقامة، رغم أن تصرفهم بتلك اللباقة الظاهرة ليس إلا تمثيلاً بتمثيل، ولكن إذا اكتشفهم الآخرون -وهذا أمر طبيعي- يقولون إنهم كانوا جيدين وعدلوا عن المعاملة الجيدة حالما يعرفهم الطرف الآخر ويكتشف أن تصرفهم ليس إلا تصرفاً خادعاً بعيداً عن الصدق والنية الطيبة، نعم ينسون أن الحق قديم.

وفي هذا المجال نجد أن هذه الظاهرة لا تتعلق بالتربية، وإنما تتصل بمفهوم الإنسان حول نفسه، إذ إن مثل هؤلاء الأشخاص يقيِّمون أنفسهم بأنفسهم حسبما تصور لهم أنانيتهم، وعلى أساس ما يخدم رغباتهم ونزعاتهم، ولا يقبلون تقييم الآخرين لهم. وإذا حدث وأن قيَّمهم الطرف الثاني يرفضون ذلك التقييم ولا يعترفون بأن الخطأ صادر عن أنفسهم، لأن الأنا لديهم طاغية على تفكيرهم وتتحكم بإرادتهم، وبالتالي لا تسمح بقبول رأي الآخرين. وإذا جلسوا بين الناس يدَّعون أنهم لا يريدون التعامل مع الآخرين بعد أن يجدوا أن هؤلاء الآخرين قد تخلوا عن التعامل معهم بعد اكتشاف تمثيلهم الزائف وكذبهم على أنفسهم وعلى الآخرين.

مع الأسف، لقد أصبحنا نعيش في عصر غريب عجيب، غريب عن حضارتنا التي نعتز بها، شرائح عديدة من المجتمع تنتهج سلوك التمثيل، وعندما يسقط القناع عن الوجوه ويتم اكتشاف الخداع ويبتعد الناس عنهم يقولون ببساطة إنهم هم الذين تركوا الطرف الآخر وأنهم في الأصل لم يرغبوا في التعامل مع هؤلاء الناس رغم أن هؤلاء الناس هم الذين ابتعدوا عنهم بعد كشف زيفهم وكذبهم على أنفسهم وتمثيلهم.

إن حب الإنسان لنفسه أمر طبيعي، ولكن ذلك الحب ينبغي أن يكون ضمن الحدود المعقولة، وذلك بأن لا يكون سبباً في خداع الناس، علماً أن هذا الخداع لا يعمر طويلاً، وإذا استطاع أمثال هؤلاء أن يمرروا خداعهم لفترة فإن هذه الفترة لها نهاية، وهكذا ينكشف تمثيلهم. وفي مثل هذه الحالة نجد أن أصحاب هذا السلوك إنما كانوا يمثلون على أنفسهم لأنهم صوروا الماضي الذي يعجبهم فقط دون أن يأخذوا بعين الاعتبار أن الإعجاب بهم يجب أن يأتي من الآخرين وليس منهم.

هناك أشخاص تتحكم فيهم «الأنا»، وهم بهذا يشبهون إبليس الذي تحكمت به أنانيته، إنهم يمثلون على أنفسهم قبل أن يمثلوا على الآخرين، وبالطبع فإن ذلك التمثيل ليس إلا صورة من صور الكذب على أنفسهم.. يمثلون ويمثلون حتى تصل بهم الأمور إلى تصديق ذلك السراب الذي صنعوه بأنفسهم، يصدقون ذلك الكذب الذي يكذبونه على أنفسهم دون أن يشعروا أن الله كاشفهم، وأن مثل هؤلاء الناس نجدهم لا يستقرون على حال واحدة أو وضع ثابت لأنهم ابتعدوا عن القيم التي تعطي صاحبها الطمأنينة والاستقرار. هؤلاء الناس نجد أنهم يجعلون أنفسهم سعداء لفترة وتعساء في فترة أخرى، وبالطبع فإن ذلك التحول من وضع لآخر ناتج عن أوهامهم ووسوساتهم ومعرفة الآخرين حقيقتهم. هؤلاء الناس يشاهدون أخطاء الآخرين ولا يشاهدون أخطاءهم، فهم لا يرون في القمر إلا بقعة، ولا في الصيف إلا حره، ولا في الشتاء إلا برده، وحتى في الربيع لا يشاهدون جمال أزهاره وبساطه الأخضر. هناك من يعتقد أنه خالد، ولا يخطر في باله أن هذا الكون يفنى وأن كل ابن آدم يوماً على آلة حدباء محمول، فهو يضحك على نفسه عن وعي أو دون وعي، وتلك هي الطامة الكبرى. لقد علمتنا طبيعة الكون بأن التفاهة لا يمكنها أن تتفوق على النبوغ، وأن الكراسي المتحركة لا تستطيع أن تستقر على أجنحة النسور، وأن صخب البورصة لا يمكنه أن يطغى على الموسيقى الصادرة عن أنامل شوبان، وأن بصمة الأمي لا بد لها أن تنهزم أمام بلاغة المعلقات السبع، تماماً كما أن الواقع المعطاء هو وحده الذي يفرض نفسه في كل الأوقات.

رسولنا الكريم محمد عليه الصلاة والسلام كان خيِّراً صادقاً معطاءً خلوقاً أميناً على نفسه وعلى الآخرين منذ نعومة أظفاره عندما كان في بيت عبدالمطلب، لقد بقي محمد على قيمه وثوابته في مكة المكرمة، في الطائف وحتى نهاية حياته، وكلنا يعرف ماذا قال لأهل مكة وهو المنتصر «اذهبوا فأنتم الطلقاء»، لم يتغير محمد صلى الله عليه وسلم وبقي على خُلقه الكريم.

لقد أعطانا التاريخ أمثلة رائعة تتعلق بالقيم، هذا بلال.. تمسك بالقيم رغم كل ما تعرض له من الاضطهاد والعذاب، لقد قيَّم الرسول صلى الله عليه وسلم مبادئ وكرم وقيم حاتم الطائي وأكرم ابنته على الرغم من أن أباها كان قد توفي، وقد قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام»، لماذا؟ لأن النبيل يبقى نبيلاً ولا يتغير ولا يتبدل مهما كانت الظروف، والخيِّر يبقى خيراً في غناه وفقره، وكلنا يعلم أن فقراء المدينة الأنصار تسابقوا مع الأغنياء في إكرام الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم أثناء هجرتهم إلى المدينة.. كيف كان ذلك؟ وما هو الدافع؟ إنه النُبل المتأصل في نفوسهم، عُرف عثمان بن عفان رضي الله عنه بالحياء قبل الإسلام وبعده، واشتهر عمر رضي الله عنه بعروبته قبل الإسلام وبعده، وتميز حمزة بالشجاعة وعبدالمطلب بالكرم وعلي بالشجاعة والحكمة، وجميعهم لم يغيروا سلوكهم.. كيف؟

مرة ثانية أقول إن ذلك من طبع القيم، فهم لم يكونوا ذوي مروءات مع زيد وغير ذلك مع عمرو لأنهم كانوا يتمسكون بالقيم.. النبي موسى عليه السلام عرف نفسه وأراد أن يعطينا درساً فطلب من الله عز وجل أن يرسل معه أخاه هارون معترفاً بحاجته إليه.

خلاصة القول: أن الشجاع لا يمكن أن يصبح جباناً، وأن الكريم لا يمكن أن يكون بخيلاً، كما أن هذا الأخير لا يمكنه أن يصبح كريماً، إذ إن الشجاع شجاع وذو القيم ذو قيم، والكريم كريم والقيم لا تتغير، ومن يتمتع بالخير يحكِّم القيم والمبادئ في تعامله، إنه ذلك الإنسان الذي حباه الله بالقدرة على ضبط النفس الأمارة بالسوء، القيم ثابتة عند هذا الإنسان لأنه يملك القيم، بعكس ذلك الإنسان الذي لا يملك من القيم شيئاً ويعتقد في قرارة نفسه خطأ بأنه يسير في المسار الصحيح وأنه على صواب فيما يفعله ويقوله، وحتى إذا سمع نصيحة من إنسان مشفق عليه فإنه يستهزئ بتلك النصيحة ويتخذ مواقف معادية لذلك الناصح، وهو في الأصل يظلم نفسه ولا يقف مع ذاته، يقضي عمره بعيداً عن إسعاد نفسه بالحق ويضع نفسه في خانة الخاسرين لأن الآخرين قد كشفوه وعرفوا أنه يمثل تمثيلاً فقط، إنه حب الذات الذي تجاوز حدود المعقول والمقبول، ذلك الحب المفرط لنفسه الذي أفقده بصيرته وجعله ينظر إلى نفسه نظرة الرضا رغم عيوبه التي لا تعد ولا تحصى.

يقول عيسى عليه السلام في وعظه لبني إسرائيل: «إن حبة القمح تبقى وحيدة إن لم توضع في الأرض ومن ثم تموت دون أن تنتج شيئاً، وأما إذا وضعت في الأرض وماتت فإن غلتها الحَب الكثير»، وهذا يعني أن من يتمسك بحياته ولا يخدم إلا نفسه يلقى الخسارة، ومن نبذ حبه لذاته في هذا العالم فإنه يستبقي تلك الحياة إلى الحياة الأبدية.

لقد قال أحد الصالحين «احذروا وتحفظوا من الطمع»، وقال آخر «ادخلوا من الباب الضيق، فإن الباب الذي يؤدي إلى الهلاك هو الباب الواسع وطريقه رحب وكثيرون هم الذين يدخلون فيه، وعلى الإنسان أن يعلم أن من كان في سعة فإن حياته لا تكون في أمواله.

والغريب في الأمر بأننا نجد أن هناك أناساً يسعون إلى حُب الظهور حتى في المصائب وأثناء تواجدهم في مناسبات تتطلب الأخلاق والقيم. وفي هذا المقام هناك قول مفيد علينا أن نتفكر به وهو «إعجاب المرء بنفسه يدل على نصف عقله»، وهناك قول آخر «أن ينتقدك رجل حكيم خير لكم من أن يمدحك رجل غبي»، والمخدوع حقيقة في هذه الدنيا هو ذلك الإنسان الذي يعتقد بأنه لا يستغني عنه أحد، وقد قال فولتير (أن تكون صالحاً لنفسك يعني أنك لا تكون صالحاً لشيء).

وأخيراً أختم بقول ابن القيم «أن أصول الخطايا كلها ثلاثة: الكِبر الذي بلغ بإبليس إلى الكفر، الحرص وهو الذي أخرج آدم من الجنة، والحسد الذي جرّأ أحد ابني آدم على قتل أخيه، فمن وُقي شر هذه الثلاثة فقد وُقي من الشر، فالكفر من الكبر، والمعاصي من الحرص، والبغي من الحسد».

وكم هو جميل أن نتذكر قصة يوسف عليه السلام وموقفه من إخوته العشرة الذين ألقوه في البئر وكانوا سبباً في بيعه عبداً، ماذا كان موقفه بعد أن أنجاه الله وأعطاه مرتبة النبوة ووقف إخوته أمامه أذلاء؟ قال لهم دعونا ننسى الماضي ولا أريد أن تتذكروه فأنتم إخوتي وأحبائي، حقاً إنه لموقف عظيم، ويا حبذا لو أننا نقتدي بأنبيائنا موسى وعيسى ومحمد ويوسف، عليهم السلام، إنهم قدوة حسنة، فأين نحن من روائع هؤلاء الأنبياء؟!



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد