Al Jazirah NewsPaper Saturday  19/06/2010 G Issue 13778
السبت 07 رجب 1431   العدد  13778
 
ماذا بعد ؟!
المعادلة المقلوبة.. دخول شركات وهروب مستثمرين (2-2)
عبدالحميد العمري *

 

أتابع ما بدأته في مقال الجزء الأول من (المعادلة المقلوبة.. دخول شركات وهروب مستثمرين)، كاتباً أنه قد استمرتْ تلك المشاهد تجري وتتم في سرعة خارقة لقطارٍ مندفع لا ينوي التوقف أبداً، في محاذاةٍ من (سلحفاة) تنظيم تعاملات السوق التي كانت تسير الهويني، ولا يقلقها هدير القطار المغامر على بعد شبرٍ منها، وكم مرةٍ فقدت قائدها بين تضارب كل من وزارة التجارة (العتيقة العمر) من جهةٍ، ومن جهةٍ أخرى هيئة السوق المالية (حديثة النشأة وقتها)، فيما اكتفت كل من وزارة المالية ومؤسسة النقد العربي السعودي (ساما) بالمشاهدة الصامتة أحياناً، والداعية للاطمئنان أحياناً أخرى! حتى جاءت إشارةٌ للتحذير واضحة وصريحة بقرب الخطر ضمن توصيات صندوق النقد الدولي (مشاورات المادة الرابعة 2005م)، تتابعت لاحقاً الإجراءات والقرارات الحاسمة مع نهاية 2005م من قبل تلك الجهات، قُلّصت على أثرها سقوف الائتمان البنكية، ومنعت الشركات من الاستثمار في السوق، وشددت الأنظمة واللوائح التنفيذية المرتبطة بتنظيم السوق بعد عدة تعديلات عليها، وتم تنفيذ عددٍ كبير من العقوبات والجزاءات والغرامات بحق الشريحة المخالفة من المضاربين، انتهاءً بتخفيض نسبة التذبذب اليومية على تحركات الأسعار!

جاءتْ النتيجة الوخيمة أسرع وأعنف من جميع السيناريوهات المتوقعة داخل أروقة الأجهزة المالية والنقدية؛ تمثلت في استجابةٍ عنيفة جداً من السوق الناشئة المتضخمة جداً، لتدخل في رحلةٍ عكسية وجهتها الرئيسة الهبوط منذ ضحى 26 فبراير 2006م ولا تزال مستمرةً في اتجاهها الهابط إلى اليوم، الذي أكملت فيه 1092 يوماً من الهبوط حتى إغلاق 16 يونيو 2010م! ومنذ ذلك التاريخ (26 فبراير 2006م) تسارعتْ وتيرة الإدراجات تتدافع على السوق حتى وصلت إلى تاريخه لنحو 66 شركة مدرجة (27 شركة عاملة بعلاوة إصدار، 39 شركة تحت التأسيس منها 30 شركة تأمين)، وصل إجمالي أسهمها المدرجة إلى أكثر من 17.4 مليار سهم، فيما بلغ عدد الأسهم المطروحة منها للاكتتاب إلى أكثر من 4.9 مليار سهم، بقيمةٍ فاقتْ 70.2 مليار ريال! قام بدفعها نحو 141.4 مليون مكتتب. في ضوء ذلك، فقد ارتفع عدد الشركات المدرجة في السوق المالية من 77 شركة قبل فبراير 2006م، إلى أن وصل حتى اليوم (بإضافة جميع الاكتتابات الأخيرة) إلى 144 شركة مدرجة، وارتفع عدد الأسهم المدفوعة في السوق من 14.9 مليار سهم قبيل فبراير 2006م (باحتساب أثر التجزئة)، إلى أن وصل اليوم إلى أكثر من 39.3 مليار سهم (بإضافة جميع الاكتتابات الأخيرة)، ولكن في المقابل تراجعت قيمة التعاملات من 5.3 تريليون ريال خلال 2006م، إلى أن بالكاد ناهزت 1.3 تريليون ريال مع نهاية 2009م، أي بانخفاضٍ وصلت نسبته إلى 76 في المائة! ولا يزال مسلسل التراجع ماضيا بحلقاته العجاف؛ إذ وصلتْ نسبة التراجع في قيمة التعاملات عن الخمسة أشهرٍ الأولى من عام 2010م بالمقارنة مع ذات الفترة إلى أكثر من 40 في المائة! ماذا يعني ذلك؟!

نعم خفّت حدّة المضاربات، ولكن في جانبٍ آخر مخفي يكشف عنه العودة إلى إحصاءات المتعاملين النشطين في السوق اليوم -التقرير السنوي 45 لمؤسسة النقد 2009م- يُلاحظ أن شريحة منهم قد بدأت بالانسحاب منذ تاريخ الانهيار الشهير، وظل يتفاقم حتى وصلت أعدادهم وفقاً لتلك الإحصاءات إلى ما لا يتجاوز 157 ألف متعامل! كأن واقع الأمر يُشير إلى أنه مع كل زيادةٍ في عدد الشركات المدرجة، فإنه يصاحبها انخفاض في عدد المتعاملين، ولا يأتي أحد هنا ليقول لي إنهم قد تحولوا من الاستثمار المباشر في السوق بعد تجربتهم الفاشلة إلى صناديق الاستثمار، فالصناديق أيضا على الرغم من زيادة عددها إلا أنها شهدت أيضا انسحاباتٍ كبيرة، فلم يعد من مشتركيها سوى 243 ألف مشترك، مقارنةً بعددهم الذي تجاوز ذات يوم 600 ألف مشترك! إذاً؛ نحن أمام ملامح من الحلقة الأخيرة للمعادلة المقلوبة (تزايد أعداد الشركات مقابل تناقص أو هروب المستثمرين)..

إنها سوق ترتعد قلقاً وتوتراً فوق صفيح ساخن، تضطرم تحته نار مستعرة من تصادم حجري رغبات المتعاملين وتوجهات هيئة السوق المالية! دفع بها بالتزامن مع عددٍ من المعطيات الداخلية قبل الخارجية إلى الانحدارات الشديدة التي نواجهها في الوقت الراهن. ما تلك المعطيات الداخلية؟! هنا نضع الأصبع على دور السياسة النقدية التي اتخذتْ اتجاهاً متشدداً غير مسبوق نحو الحدِّ من التوسع في المعروض النقدي، بدأته مع صباح أول يوم في نوفمبر 2007م حينما قامت (ساما) برفع نسبة الودائع النظامية على الودائع تحت الطلب من 7 في المائة إلى 9 في المائة، ثم إلى 10 في المائة مع مطلع يناير 2008م، ثم إلى 12 في المائة مع مطلع إبريل 2008م، ثم إلى 13 في المائة مع مطلع مايو 2008م، ورفعت أيضا في ذات التاريخ نسبة الوديعة النظامية على الودائع الادخارية والآجلة من 2 في المائة إلى 4 في المائة، علماً أن ساما بدأت في رفع معدلات اتفاقيات إعادة الشراء والشراء المعاكس منذ مطلع 2006م لحاقاً بالاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، ومن الملفتْ أنه في ذات الفترة السابقة زادتْ وتيرة وحجم الاكتتابات المُوافق عليها من قبل هيئة السوق المالية وصلت قيمتها عند الطرح إلى 39.9 مليار ريال، شكلتْ نحو 57 في المائة من إجمالي قيمة جميع الاكتتابات بعد انهيار فبراير 2006م إلى يومنا الراهن! وكأن تلك السياستين تعاضدتا لتشكلان ما يُشبه الكماشة العملاقة على السيولة النقدية المتاحة في الاقتصاد! وقد أثّرت بالفعل على اتجاهات السوق المالية، حيث بدأ المؤشر في التراجع من ذروته عند 11895 نقطة في 12 يناير 2008م، ليهوي فقط خلال 10 أيام فقط لاحقة بأكثر من 21.5 في المائة، واستمر في انحداره إلى أن وصلت خسائره ليلة اندلاع الأزمة المالية إلى نحو 35 في المائة. وعليه، يمكن القول إنه حتى لو لم تندلع نيران الأزمة العالمية، فإن السوق بموجب التأثير المزدوج للكماشة أعلاه؛ كانت السوق ستواجه ذات المصير الذي تتقلب فيه في الوقت الراهن، الفارق هنا فقط في العامل الزمني الذي كان سيستغرق وقتاً أطول مقارنة بالسرعة الزمنية الخاطفة لتداعيات الأزمة المالية، مع عدم إغفال أن حتى تلك السياسات المتشددة تجاه السيولة ساهمت بصورةٍ كبيرة في إنهاك قوى السوق المحلية قبيل اندلاع الأزمة المالية، بل لقد تأخرت (ساما) كثيراً في تعديل سياساتها تجاه النسب النظامية على الودائع، إذ لم تبدأ في خفضها إلا بعد نحو شهر من بدء الأزمة، بعد أن خسرت السوق أكثر من 25 في المائة من قيمتها! الشاهد في القول إن قوى تلك الكماشة تفتت لاحقاً مع اندلاع نيران الأزمة المالية العالمية، وبدأ كلا الطرفين في التراجع للخلف، لتنخفض نسبة الودائع النظامية على الودائع تحت الطلب في 12 أكتوبر 2008م إلى 10 في المائة، ثم إلى 7 في المائة في 23 نوفمبر 2008م ولا تزال، تزامنتْ مع خفض معدلات اتفاقيات إعادة الشراء والشراء المعاكس لتنحدر من قمتها الأعلى عند 5.5 في المائة لإعادة الشراء إلى أن وصلت لمعدل 2 في المائة، وإلى 0.25 في المائة للشراء المعاكس، وفي جانب الاكتتابات كانت الأغلب منها شركات تأمين!

وعليه؛ جميع ماورد في المقالين يُشير بوضوح إلى جزء لا يُستهان به من السياسات الاقتصادية ذات العلاقة بالشأن المالي والاستثماري المحليين، يتخللها خللٌ جسيم، أفضتْ كما نشهده واقعاً إلى نشوء معادلاتٍ مقلوبة تماماً، ساهمت بعددٍ من الصور في تردّي الجسد الاستثماري ممثلاً في السوق المحلية، وها هي امتدتْ أيضا لتنهك كيانات القطاع الخاص برمته، الذي تجففت شرايينه لأن 11 بنكاً فقط قالت بصوتٍ واحد (لا) للإقراض! إنه واقعٌ ينشد إدخال حلول جذرية لا شركاتٍ ورقية أو طمأنةٍ إنشائية، يتطلب بالضرورة أن يؤدي في حصيلته إلى طرد المعوقات والمشاكل لا مجتمع المستثمرين ومطوري الأعمال، والله ولي الأمر من قبل ومن بعد..

عضو جمعية الاقتصاد السعودية


me@abdulhamid.net

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد