Al Jazirah NewsPaper Tuesday  29/06/2010 G Issue 13788
الثلاثاء 17 رجب 1431   العدد  13788
 
حينما حل قروي لأول مرة في الرياض القديمة 2-3
تدوين لملامح تكاد تختفي من صورة الرياض القديمة
د. محمد عبدالله العوين

 

يبدو الجو لطيفاً وربيعياً في الرياض القديمة مطلع عام تسعة وثمانين وثلاثمائة وألف، فما شعر الفتى بحرارة الشمس وهو يمد خطاه الكاشفة المتفحصة في ذهول بين ميدان الصفاة وقصر الحكم وشارع الثميري المزدحم

بالمحلات التجارية، فمر من صيدلية شبيب المواجهة للساعة ورأى ما تخزنه من الأدوية وأدوات الطبابة فقال في نفسه: ما أكثر ما يمرض أهل الرياض! ثم رأى الأحذية معلقة ومصفوفة بانتظام خلف واجهات الزجاج، ورأى الذهب معروضاً في المحلات على قارعة الطريق لا يفصله عن المارة سوى حاجز زجاجي شفاف، فقال: ألا يخشى التجار على متاجرهم من اللصوص؟! كيف يعرضون ما لديهم مما يخف حمله ويرتفع ثمنه خلف زجاج فقط؟! فتمنى لو فاتح أحداً منهم في مخاوفه هذه، لكنه واصل سيره مكتشفاً؛ فوجد لوحة بسهم تشير إلى مدخل علوي يبدأ بدرج صغير ملتو، وقد كتبت لوحة صغيرة عند مدخل الدرج (استديو الرياض) فرأى أن يعرف ما طبيعة هذا الاستديو؟ وما شأنه؟ وماذا يفعل؟ فصعد الدرج الضيق الملتوي ولف لفتين فوجد نفسه في غرفة صغيرة تتصدرها مرآة وصور متعددة معلقة للملك عبدالعزيز وللملك سعود وللملك فيصل، فأعجب بحسن تنظيم وتوزيع الصور وسأل صاحبه: ماذا تفعل؟ فقال: أصور! قال الفتى: تعني تعكس؟! قال بلهجة يمانية واضحة: ايه تشتي تعكس؟ قال الفتى: بس زين عكسي! ألبسه المصور جاكتة مخططة، ولا يعلم لم ألبسه الجاكيت مع أن الجو ليس بارداً، ولم هو أيضاً مخطط؟ ثم نزع غترته الملفوفة على عنقه والمنسدلة على كتفيه وألبسه غترة أكثر جدة منها لكنها موضوعة لكل الزبائن، ثم وضع على رأسه عقالاً وأخذ في موازنة مقدمة الغترة تحت العقال بحيث يبدو منها ثلاث كسرات وأمره بأن يبتسم وعيناه شاخصتان إلى بؤرة الكاميرا المنصوبة على ثلاث قوائم، ثم شع نور سريع خاطف، وبعد هنيهة شع نور آخر خاطف، وقال له الفتى: دعني أرى عكسي؟ فرد المصور: مالك يا فتى، تشتي تاخذها بعد ثلاثة أيام!

انتهت مغامرة اكتشاف هذا الاستديو، لكنه تساءل في نفسه: لم اختار مكانه في الدور العلوي؟ ولمَ لم يضع صوراً تدل عليه، ولمَ أخفى الصور داخلا، ولمَ لم يضع لوحة كبيرة؟ أفاده العارفون بأن وضع الصور الكبيرة خلف الزجاج أمام المارة في الشارع يعرض صاحب الاستديو لغضب بعض المتشددين!

والتفت يساراً وهو يخرج من العمارة المليئة بالمتاجر ومن الأبواب الزجاجية التي تنفتح بين وقت وآخر فيلفح وجهه هواء بارد منعش برطوبة لذيذة مختلطاً برائحة عطور تنبعث من محل مجاور ويتصاعد منه دخان عود وبخور فرأى عن بعد قصراً طينياً قديماً بباب خشبي وله فتحة صغيرة في وسطه تفتح وتغلق بمزلاج صغير، وللباب حلقة كبيرة وقد تبين عليه آثار الزمن، فلما سأل عنه قيل له: هذا قصر المصمك! فاستعاد ما سمعه من قصص عن فتح الرياض عام 1319هـ وبطولات الملك عبدالعزيز - رحمه الله - ورجاله الأشاوس، ثم تذكر ذلك الفيلم السينمائي غير الملون الذي عرضته في قريته شركة أرامكو قبل سنة في مخيم كبير نصبته الشركة في ملعب كرة القدم، وها هو الآن يقف بنفسه على المكان نفسه الذي دارت فيه معركة فتح الرياض كما رآها مصورة في ذلك الفيلم الذي ما برح يتردد على مخيلته ليالي عدة!

امتدت خطاه قليلاً فوجد نفسه يقف على حافة واد يجري فيه ماء غير نظيف وتنبعث منه رائحة كريهة، فعلم أنه يقطع مجرى وادي البطحاء الشهير الذي حدثه عنه أخوه إبراهيم البارحة بتندر، وحذره من أن تنزلق قدمه فيه حين يذهب لشراء بعض الكتب والمجلات من مكتبات البطحاء، وضع قدمه بقلق على الجسر الخشبي الفاصل بين الضفتين مسرعاً قليلاً؛ لكيلا يشم قدراً كبيراً من الرائحة الكريهة ثم وجد نفسه أمام عمارة الدغيثر التي وصفها أخوه له، وقرأ: مكتبة الحرمين، مكتبة الرياض الحديثة، مكتبة..واحتار أيها يدخل، هذه مليئة بمجلدات تراثية لا طاقة له بها، وتلك زاخرة بروايات وقصص عديدة لنجيب محفوظ ولإحسان عبدالقدوس ولمحمد عبدالحليم عبدالله ولجورجي زيدان الذي بدأ في قراءته وعشقه من أول رواية وهي (أرمانوسة المصرية) حين قرأها في المكتبة العامة بقريته، ومكتبة ثالثة حافلة بمجلات وجرائد من كل صنف ولون وبأدوات مدرسية وقرطاسية، تعشق هذا الجو وطاب له، وودَّ لو يقضي كل وقت إقامته في الرياض هنا بين هذه الخمائل الجميلة الوارفة!

كان النهار يكاد يقترب من منتصفه وفي يدي الفتى كيسان كبيران يخبئان ما جناه من مكتبات البطحا وفي داخله زهو وشعور بغنائم وامتلاء بفرح من يجوس دياراً غريبة عليه لأول مرة فيرى في كل منظر لذة ومتعة وتدفعه قدماه ليسير ويسير فيقطع مسافات ممتدة دون أن يدري، لأنه منشغل بما تقع عليه عينه من جديد المناظر، وبما يفكر فيه عقله من متواليات الصور، وما لبث الفتى حتى رأى نفسه ثانية في ميدان الصفاة ماراً بجانب قصر الحكم قاصداً (بيت الإخوان) بين مليحة ودخنة حيث يسكن أخوه في تلك الغرفة الصغيرة مع قريبه الكفيف من طلبة العلم، وأجال الفتى بصره فيما حوله، فرأى عموداً حديدياً بجانب القصر قيل له إن يد السارق حين تقطع تنفيذاً للحد الشرعي تعلق ها هنا على رأس هذا العمود ليكون عبرة وعظة لغيره، وحدثه من حدثه بأنه ها هنا أيضاً في ساحة الصفاة يتم تنفيذ الحدود الشرعية فيجلد العصاة وتقطع رؤوس القتلة، وما كان يدور في خلد الفتى أن السنين ستدور دورتها المعتادة وسيشهد بعد عقد من الزمن، وبالتحديد في يوم 21-2-1400هـ، تنفيذ الحد الشرعي في جماعة متطرفة أفسدت في أطهر بقعة في الأرض، وروعت ومنعت الصلاة جمعتين متتاليتين في الحرم المكي الشريف، وأراقت الدماء بجانب الكعبة في المطاف والملتزم والمسعى، حيث وقف خلف السياج الحديدي المقام على رصيف سوق أشيقر ينظر مع الناظرين وقدماه لا تكادان تحملانه؛ لأنه يرى لأول مرة في حياته عشرة رؤوس تطير واحداً بعد الآخر من جماعة جهيمان التكفيرية الباغية المنحرفة، ولا يزال يتردد على مسمعيه صوت قارئ البيان عبر المايكرفون اليدوي وهو يسرد أسماء المجرمين قبل أن يهوي السياف بسيفه الأبيض اللامع على رقابهم، يسمع أسماء عدد منهم، مثل: عيد بن سالم، وردن بن غازي، وسمير، وفيصل..، عشرة رؤوس تطير في هذا الميدان من جماعة جهيمان، والحق أن تسميته بالصفاة لا يمنحه الدلالة الحقيقية، بل الواجب تسميته بميدان العدل؛ لأن الأمن والأمان والعدل والاستقرار لا يتم إلا بتطبيق الحدود الشرعية على كل مجرم أو معتد أو منحرف، لقد تعالى وكبر وتصاعد حجم (قصر الحكم) أمام ناظري الفتى ورأى كيف تجتمع المهابة مع الحزم مع الشموخ مع قوة النظام السياسي ورسوخه في أعماق تربة هذا الوطن.

رفع أذان صلاة الظهر من الجامع الكبير، فسمع صوتاً مليئاً بشجن نجد، عميقاً بروحانية الصحراء، عذباً بسماحة جيل الآباء، يصاعد في عنان سماء الرياض فيسمعه القاصي والداني من أطراف عليشة والبديعة إلى حدود المربع والناصرية، وانتهاء بحيي سلام ومنفوحة! كل الرياض القديمة تسمع صوت ابن ماجد حين ينطلق في فضاء الرياض وغير الرياض أيضاً؛ لأن الإذاعة المحلية تنقله إلى مستمعيها في كل مكان، ولكن صوت ابن ماجد لم يصل إلى سمع الفتى قبل أذان الظهر هذا وإنما كان يسمع به وبحلاوة صوته؛ لأن والده لم يكن مقتنعاً بإدخال الراديو إلى بيتهم؛ خوفاً مما يبثه من لهو وغناء، ملأ وجدانه من صوت ابن ماجد وذهب يتوضأ لصلاة الظهر، ودخل الجامع الكبير الذي كان مبنياً بالأسمنت وتدور في أسقفه المراوح الكهربائية المعلقة بانتظام؛ مما أبهر الفتى وشعر بصغر جامع قريته وبدائيته؛ لأن المولِّد الصغير الذي اشتراه أهل القرية بتبرعات خيرية كان كثير العطل ضعيف الطاقة، وما كان يعمل إلا للإضاءة المتقطعة الضعيفة فقط وفي أيام دون أيام.

أمَّ المصلين شيخ مسن سمح الوجه متوسط البنية بين الطويل والقصير كفيف البصر خفيض الصوت، فارتاح الفتى للصلاة خلفه، وحين سلم وقعت عيناه على صفحة وجهه فإذا بوجه أبيض تعلوه صفرة مع شحوب يبدو أنه من أثر تقدم العمر، حيث قدر له أنه يناهز الثمانين عاماً، خفيف الشعر في العارضين بلحية بيضاء مهذبة ليست طويلة ولكنها مذروبة، وسأل من سأل عن الإمام من يكون؟ فأجابه من بجانبه بكلمات مقتضبة لا تخلو من سخرية: أما تعرف الشيخ؟ إنه المفتي محمد بن إبراهيم!

تحلق الناس على الشيخ بعد أدائه سنة الظهر وصحبه جمع كبير من طلبته وبعض المستفتين وخرج من الباب المقابل لقصر الحكم متجهاً على قدميه إلى منزله القريب في دخنة، أو على الأصح بين القري ودخنة ماراً بميدان الصفاة، وسمع الفتى من ثقاة أن الشيخ يؤم المصلين أكثر الأوقات في المسجد القريب من بيته المسمى باسمه (مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم) وهو يكاد يكون مقابلاً للمكتبة السعودية بدخنة.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد