Al Jazirah NewsPaper Wednesday  21/07/2010 G Issue 13810
الاربعاء 09 شعبان 1431   العدد  13810
 
الحداثة
مي عبدالعزيز عبدالله السديري

 

أطلتْ على العالم الألفية الثالثة، وحملتْ معها مصطلحات عالم حديث وحداثة، وتركزت فيها المساعي لتنظيم الحياة السياسية والاقتصادية استناداً إلى محور أساسي هو الوجود المادي، وغاب عن جدول تلك المساعي الوجود الروحي. وبمعنى آخر إعطاء الأولوية للمادة وإغفال الروح، أي اعتماد الحياة المادية وإهمال الحياة الروحية، الأمر الذي يعني فقدان الإنسان للبُعد الديني ويقينه، وفقدان الإيمان بالسمو الروحي وما يحققه للإنسان من السعادة والتعلق بالمادة وما تجلبه من مصائب لا حدود لها. ورغم أن غياب السمو الروحي هو أمر غريب، ولكنه في الوقت ذاته أنه أمر منطقي ومتوقع، بعد تدشين عصر النظرة العلمية الخالصة، وإحساس البشر بأنهم امتلكوا أسمى المعاني في العالم، وعرفوا مقاييس ومقادير كل شيء، الأمر الذي أدى إلى انحسار المعاني الحقيقية، وبالتالي إلى تضاؤل مكانة الإنسانية. وهذا يعني أن العالم فَقَدَ بُعدَه الإنساني، بل وفَقَدَ السيطرة عليه.

لقد عاش الإنسان ضمن الرؤية الكونية التي تندرج ضمن الخطة الإلهية للكون قبل أن يأتي عصر العلم الحديث الذي استبدل تلك الرؤية التقليدية بالرؤية العلمية للكون، يقول الدكتور هوستون سميث «HUSTON SMITH» وهو أستاذ الفلسفة وعلم الأديان في عدة جامعات أمريكية، إن صحفياً قال له: «تبدو وكأنك غاضب من العلم»، فصحح له ملاحظته، وقال له: «أنا غاضب من أنفسنا نحن الغربيين الذين تخلينا عن التفكير الصافي النقي وسمحنا لأنفسنا بأن نكون مهووسين بالأسس المادية للحياة لدرجة جعلتنا نمنح العلم شيكاً على بياض».

ويقول عالم الاجتماع مانفريد ستانلي «MANFRED STANLEY» إنه في عالم اليوم نجد أن هناك اعتلالاً روحيًا يرافق عملية تحديث وعصرنة العالم، إنه مرض أصبحنا نطلق عليه اسم «الانسلاب» أو الاغتراب، نجد أن التحديث والعصرنة قد فرضا علينا عالماً خالياً من أية خصائص إنسانية مثل الجمال والقبح، الحب والكراهية، الرغبة والإشباع، الخلاص والدنيوية.

إنصافاً للحداثة يمكننا الاعتراف بأنها حملت بعض الجوانب الإيجابية، فقد أعطت المرأة الأمريكية حق الانتخاب، ذلك الحق الذي حرمت المرأة فيه حتى عام 1918، إذ إنه قبل ذلك كان القانون الانتخابي ينص على أن لكل شخص الحق في الإدلاء بصوته ما عدا (البله والمعتوهين والمجانين والنساء).

ولقد أثبتت الدراسات الموضوعية أن الإنسان السوي يريد أن يبتعد عن الخطأ وأن يسلك طريق الصواب، وأن لدى الإنسان رغبة شديدة في الحصول والوصول إلى الإيمان، وأن رغبته تلك هي أقوى من رغبته الجنسية، وأعمق من رغبته في الوصول إلى المقام والجاه، بل هي أقوى من غريزته في التملك. وقد أشارت الإحصاءات الطبية أن نسبة الوفاة لدى الناس الذين يتمتعون بالإيمان هي أقل بنسبة 28% من أولئك الذين لا يوجد لديهم إيمان، والأكثر من ذلك فقد أكدت الدراسات على أن المؤمنين بالله هم أكثر قدرة على تحمل مشكلات الحياة وعلى إيجاد حلول لتلك المشكلات من أولئك الذين يفتقدون الإيمان.

نعم لقد غير العلم الحديث عالمنا تغييراً عميقاً لدرجة أنه أسقط المفهوم التقليدي للعالم إلى حد ما، ولكن ذلك السقوط لم يكن سقوطاً تاماً لأن التغييرات التاريخية لا تكون عادة فجائية، وذلك لأن التقليد - أي أصحاب مفهوم الإيمان- يقاوم تلك التغييرات ويشدها في الاتجاه المعاكس فيجعل التباطؤ في تغيير ثقافات المجتمعات عاملاً لا بد من أخذه بعين الاعتبار دائماً.

ومن حيث المبدأ قلَّما نجد من أصحاب المفهومين العلمي والتقليدي مَنْ لا يمزج مفهومه بخصائص المفهوم الآخر، وحتى أولئك الذي تخلوا عن المفهوم الديني للعالم يراوحون في انعكاساته، إذ إنهم يعتقدون أن الإنسان قد مُنِح بعض الخصائص الفريدة مثل الكرامة الذاتية المتأصلة والحقوق الإنسانية التي لا يمكن استبعادها، ولذلك يقررون على أنه من الواجب على كل مجتمع ديمقراطي أن يرسّى احترام قداسة وحرمة الفرد ويحاولون أن يبرروا هذه النزعات بأنها قيم ضرورية، ولكن الأمر الذي يفوتهم الانتباه إليه هو أنه في اللحظة التي يتم فيها تحول حرمة الفرد إلى قيمة تكون عملية ضخمة لنزع تلك القيمة قد أُنجزت قبل ذلك.

وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن الوضع النفسي للإنسان يلعب دوراً كبيراً في حياته، وأن العامل الرئيس لذلك الوضع النفسي هو الإيمان، إذ كلما كانت درجة الإيمان أعلى عند ذلك الإنسان كان الخط البياني لحياته يسير في صالحه، والعكس صحيح، وفي المجال العملي نجد مثلاً أنه كلما رفع المدرسون من مستوى توقعاتهم من طلابهم تأثر أولئك الطلاب إيجابياً أكثر، وكانت نتائجهم أفضل. وقد استفاد الأطباء من هذا الأمر وذلك بإعطاء المريض دواءً كاذباً لإرضائه النفسي، ويحقق ذلك نتائج طيبة للغاية بشرط أن لا يعرف المريض أن الدواء كاذب. والحقيقة إذا كان للمفهوم التقليدي الإيماني آثار إيجابية مفيدة على الإنسان فإن تلك الإيجابية تنبع من يقين إيمان الإنسان بأن ذلك المفهوم التقليدي هو مفهوم حق وصدق.

في الأيام الغابرة كان الإنسان يعيش في ظل مظلة مقدسة، حيث كانت المعابد أهم الأبنية والتمثيليات الأخلاقية سائدة وهي تلعب دوراً حيوياً في المجتمع، وبالتالي كان الإنسان يشعر بالسعادة والاطمئنان، وأما اليوم فقد جاءت الثقافة المعاصرة أو ما نطلق عليه مصطلح «الحداثة»، فوضعت تلك المظلة المقدسة وما تحمل من مفاهيم خيّرة وراء ظهرها جاعلة منها مجرد ستارة خلفية لمسرح الحياة، وبذلك عقّدت حياة الإنسان وجعلته ينسى نفسه. نعم إن رسالة الحياة المعاصرة تصم آذاننا صبحاً ومساءً بضجيجها وصخب حياتها، وتنفذ إلى عقولنا بوعي أو دون وعي، وهي تتلخص في أن «السعادة تأتي من الأشياء التي نمتلكها» أي المادة، وبالطبع فإن هذا المفهوم هو مفهوم خاطئ طالما أنه أغفل مفهوم الإيمان، وقد أوقع أضراراً لا حصر لها في حياتنا اليومية، وقد تراكمت هذه الأضرار بشكل ملفت للنظر، فجعلت الإنسان العاقل يعيد حساباته بهذا المفهوم الإيماني الذي يرعى ويقدم تلك الرسالة الكونية لكي نتمكن من استعادة تلك المظلة المقدسة التي فقدناها، ففقدنا كل شيء لأن ضعف الروح الميتافيزيقية يمثل خسارة لا يمكن تقديرها بثمن للنظام العام للعقل البشري والقضايا الإنسانية.

وإذا أمعنا النظر في موقع الحداثة في الآونة الأخيرة نجد أنها قد نزلت من عليائها بسبب سلبياتها الكارثية التي خلفتها في المجتمعات، وعلى رأس تلك السلبيات اعتمادها التصور المادي وتخليها عن التصور الإيماني الذي يعتبر أن الحقيقة الواحدة في هذا العالم هي «الله» وهو الشيء الوحيد الحقيقي بكل معنى الكلمة وبشكل كامل، وأن كل ما عداه هو كالظل له حسب استعارة الكهف لأفلاطون. نعم أن لكل من الدين والعلم وجوده في التاريخ، ولكن العلم وحده، وأقصد المادة وحدها لا تسعد الإنسان، ولا بد لذلك العلم أن يتعايش مع الدين، مع الإيمان الذي يرقى بالإنسان إلى المراتب الروحية التي ترفع من شأن الإنسان وتؤمن له الحياة الهانئة. ولدينا أمثلة كثيرة في كافة المجتمعات عن أشخاص لا يملكون المادة -التي اعتبرتها الحداثة مصدراً للسعادة- ولكن إيمانهم أعطاهم حياة هادئة مطمئنة أكثر بكثير ممن لديهم المادة ويفتقدون الإيمان، وأن مستقبل الإنسانية يعتمد على الإيمان، فكلما زاد الإيمان لدى الشعوب كانت تلك الشعوب سعيدة ومطمئنة.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد