Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/07/2010 G Issue 13818
الخميس 17 شعبان 1431   العدد  13818
 

ضمير الندم والنسيان
فيصل أكرم

 

قلتُ مرّةً: (كلّ الحقائق تتكشف أمام هذا العملاق: الندم) فهذا العملاق الكامن في ذواتنا يتسمُ بالقسوة والتمادي في الانتقام منا حين يحضر جرّاء فعل فعلناه وكان يجب ألاّ نفعله..

.. يتجبر هذا العملاق (الندم) فلا يترك صاحبه يهنأ بصحو أو نوم أو طعام أو شراب.. لا شيء يقدر على كبح جماح هذا الجبار إلا نقيضه الودود الرقيق الناعم المسمّى (النسيان)!

والندم واردٌ بعد كل حركة أو سكون، غير أني سأعني الندم الذي ينتاب صاحب اليد البيضاء حين تمتد لجهةٍ يلفلفها السواد من كل جانب.. إذ ليس كل عمل مثاليّ هو عمل صحيح، وقد قال الإمام علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - في إحدى خطبه المجموعة في نهج البلاغة: (وفاؤك لأهل الغدر غدرٌ عند الله). وقد أخذتْ مني تلك العبارة زمناً طويلاً للتأمل: كيف يكون الوفاءُ غدراً..؟!

على هذا فأنت تستطيع أن تندم على عمل طيّب قدمته لمن لا يستحق، وتردد مع زهير بن أبي سُلمى:

ومن يجعلِ المعروفَ في غير أهلهِ

يكن حمدهُ ذمّاً عليه ويندمِ

أو أن تحوّر وتستبدل عجز البيت، كما فعل شاعرٌ آخر حين رأى صاحباً له يجير (ضبعةً) كان نفرٌ من أهل قريته يريدون قتلها.. فأجارها وحماها منهم وأدخلها خيمته وأكرمها حتى استكانت فنام هو مطمئناً عليها فما أن استغرق في النوم حتى انقضت عليه الضبعة وبقرت بطنه وشربت من دمه!

وحين رآه صاحبه ممزقاً بأنياب الضبعة التي فرّت بعد أن شبعت من لحم مجيرها، أنشد أبياتاً مطلعها:

وَمَن يصنعِ المعروفَ مع غيرِ أهلهِ

يُلاقِ الذي لاقى مُجِيرُ أمِّ عامِرِ..!

و(أمّ عامر) هي (الضبعة) أو أنثى الضبع، وهي التي باتت محفوظة في عيون الشعر العربيّ حين فضّلها الشنفري على بني أمه وبني أبيه، ابتداءً من (لاميته) التي جاء فيها:

ولي دونكم أهلون: سِيدٌ عملّسٌ

وأرقط زهلولٌ وعرفاءُ جيألُ..

و(عرفاء جيأل) هي: ضبعة طويلة العرف!

حتى حين تمكن الراصدون من الشنفري، ووثقوه على شجرة واعتمدوا قتله تاركين له الخيار في أن يُدفن جثمانه في أرض قوم أمه أم أرض قوم أبيه، فاجأهم مبتسماً وهو يختار أن يُلقى جثمانه في الصحراء طعاماً للضبعة قائلاً: (أبشري أمّ عامرِ)!

ما الذي أخرجني عن موضوع الندم؟ ربما هو النسيان!

فهذا الأخيرُ هو خيرُ من يقضي على ذلك العملاق، أمّا شرّ من يقضي عليه فهو عملاقٌ أشدّ شراسة وبشاعة اسمه (الانتقام)!

وفي هذا المقام قد يتضاعف الندم عند النادم المنتقم فيكون كما قال المتنبي: (عقبى اليمين على عقبى الوغى ندمُ)..!

خلاصة القول هنا، هو هاجسٌ على شكل تساؤلين أردتُ طرحهما بهذه المقالة القصيرة:

هل (الندم) مكانه الطبيعيُّ (الضمير)؟!

وهل، إذا استطاع إنسانٌ نسيانَ ذلك الندم، فسيكون نسيانه بمثابة موت الضمير؟!

إذا ارتفعنا إلى الآية الكريمة في سورة القيامة (ولا أقسمُ بالنفس اللوامة) وبحثنا في معانيها، فسنجد من ضمن المعاني ما جاء في تفسير ابن كثير (قال ابنُ جرير: إنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات)..

والبحث في دلالات (اللوم) المؤدي إلى (الندم) وعلاقة كلٍّ منهما بالضمير أمرٌ لستُ أهلاً له؛ ولأن كلامي ناجمٌ عن تأمّل لحالات (إبداعية) وخواطر تعنّ وتعترض لي وأنا أتصفح كتاب أحلام مستغانمي الأخير (نسيان com) فيحسنُ بي الآن أن أختم بنزار قباني حين قال في إحدى قصائده (إني نسيانُ النسيانِ) فلعله كان يقصد (الندم) حين ينهض كالعنقاء من رماده نافضاً عنه كلّ (نسيانٍ) لا يدوم بمنأى عن (النسيان) طويلاً، طالما ثمة ضمير..

ffnff69@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد