Al Jazirah NewsPaper Thursday  29/07/2010 G Issue 13818
الخميس 17 شعبان 1431   العدد  13818
 

(قضايا أدبية) للدكتور الأديب - عبدالعزيز بن محمد الفيصل

 

القراءة في الأدب والإبحار فيه والكتابة منه وعنه، ليس بالأمر اليسير إنْ لم يكن العسير، خاصة عند الأديب الباحث الذي يستقصي باحترافية مباحثه من مضان الكتب لكي يستقي مادة مبحثه بكل دقة وأمانة، فهي مهمة شاقة وعسيرة فيما يلاقيه من صعوبة تعتري طريقه فيما ينشده لمبحثه، نتيجة ندرة وقدمية المصادر والمراجع التاريخية التي تتعلّق بالأدب قديمه وحديثه، والتي متى توفّرت لديه بعد جهد جهيد، فإنّ الأديب الناقد الباحث تهفو نفسه التوّاقة الطموحة أن يمضي قدماً في مواصلة البحث والتنقيب من خلال هذه المراجع، يستقري معلومة ناقصة في مرجع ويتتبّع أثرها بمرجع آخر، ويحاول المواءمة بالتوافق بين هذه وتلك المعلومة ثم يدبجها بيراعه، فأتى إبداعه في محطات رائعة تستلفت نظر القارئ ليتوقف عند مفرداتها واتساقها الجميل ويستلهم معرفة ثرية حافلة بالأخبار والأشعار التي اكتنزها دفّة الكتاب، كمادة أدبية ثقافية استخلصت من مراجع موسومة بالصدق والأمانة مدعمة بالبراهين والمواثيق الدالة على صدقية هذا العمل الذي نهج إليه الأديب في بحثه المضني بالتعب الذي تكلّل بنجاح عمله .. وهذا هو ديدن الناقد الباحث عن الحقيقة الموثقة، فإنه يعرف من خلال العمل الذي نهض به، بأنّ عمله هذا سيكون بين اثنين لا ثالث لهما، فإما أن يكون محسوباً له، وإما أن يكون محسوباً عليه. وأحسب وهو في حكم المؤكد أنّ مؤلف (قضايا أدبية) قدم لنا عملاً شيقاً محسوباً له لا عليه. وهو العمل الأدبي المثمر المستحق للقراءة!!

كتاب (قضايا أدبية) تستدعي تفاصيلها وفصولها تخيّلات كثيرة لمشاهدة صور حية نابضة تتراءى أمام ناظري القارئ، كأنه يعيش في أجواء الزمان والمكان ويقع على مسمعه همهمة شعراء العصر الجاهلي وشعراء العصر الإسلامي وشعراء العصر التتري والمملوكي والعثماني. كل ذلك حاضر بشخوصه وأطلاله ومراتعه ومرابعه كمشهد سينمائي بانورامي أخّاذ، يأخذ القارئ بدهشة في تداعي الصور والحكايات ودقة الوصف والشمول وجزالة العبارة، فشكّل ذلك كله حالة التباس عند القارئ ليأتي تساؤله في قريرة نفسه بعد انتباه، هل ما قرأته حقيقة أم خيال، فيرتد ناظره فيرى ما بين اليدين!!

(قضايا أدبية) للدكتور الناقد الأستاذ عبدالعزيز بن محمد الفيصل، الأستاذ بقسم الآداب في كلية اللغة العربية جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض .. أتت القضايا الأدبية، سهلة ومبسطة لقارئها، بحسب أقدميتها وأهميتها، بنظرة ثاقبة في شرح الشعر الجاهلي ومناهجه حيث الفصل الأول، يحوي مبحثين المبحث الأول - مناهج شرح المعلّقات ويعرض منهج ابن الأنباري ومنهج النحاس ومنهج الزوزني ومنهج التبريزي، والمبحث الثاني يعرض مناهج شرح دواوين الشعر الجاهلي وهي: منهج ابن السكيت ومنهج الطوسي ومنهج ثعلب ومنهج السكري ومنهج الأعلم الشنتمري ومنهج البطليوسي، والفصل الثاني يحوي قضية دعوة ضعف شعر صدر الإسلام. وبه خمسة مباحث: الأول قوة الشعر الجاهلي وسلطته في النفوس. والثاني ضعف الشعر الجاهلي في زمن البعثة. والثالث ضعف الشعر في عصر صدر الإسلام. والرابع شعر جاهلي في عصر صدر الإسلام. والخامس دفاع عن دعوى ضعف شعر صدر الإسلام. والفصل الثالث مطلع القصائد ومقدماتها في الشعر العربي. وهو في ستة مباحث الأول: مطلع القصيدة ومقدمتها قبل امرئ القيس والثاني: مطلع القصيدة ومقدمتها في العصر الجاهلي. والثالث مطلع القصيدة ومقدمتها في الشعر الاسلامي. والرابع: مطلع القصيدة ومقدمتها في العصر الحديث .. والفصل الرابع: المعارضات في الشعر العربي ويقع في خمسة مباحث: الأول تعريف المعارضات، والثاني صفة القصيدة المعارضة، والثالث صفة القصيدة المعارضة، والرابع: التكرار من قبل المعارض، والخامس: المعارضات والاتجاه الإسلامي في الشعر. والفصل الخامس: القصص في الأندلس ويحوي تعريف القصة القديم والقصة الحديث، والثاني أنواع القصص في الأندلس ويحوي القصص التاريخية وقصص الحب كما في (طوق الحمامة) والمقامات والقصص الشعرية (قصص بثينة بنت المعتمد أنموذجاً) والقصص الفلسفية (حي بن يقظان أنموذجاً) والقصص الخيالية (التوابع والزوابع أنموذجاً). والفصل السادس المناظرات بالأندلس ويقع في مبحثين. الأول: تعريف المناظرات والثاني أنواع المناظرات، ويحوي المناظرات بين القوة وبسط الحجة (كما في المناظرة بين السيف والقلم، والمناظرات بين العلماء، والمناظرات بين البلدان والمناظرات بين الأزهار). والفصل الرابع: المدارس الأدبية وأثرها في تجديد الشعر العربي الحديث، ويقع في مبحثين الأول: أثر الحضارة الغربية في العالم العربي. والثاني المدارس الأدبية في تجديد الشعر العربي الحديث ويحوي الرابطة القلمية. والعصبة الأندلسية. ومدرسة الديوان ومدرسة أبولو! ذلك ما كان من مقدمة قضايا أدبية. أما ما أود الإشارة إليه فإن هناك الكثير من الأشعار والسير تستوقفني وأود التحدث عنها.. ولكن! ليس باستطاعتي إلا اختيار النزر القليل منها!!

لذلك رأيت بعدما فرغت من قراءة الكتاب بمباحثه وفصوله، وأسلوبه السلس المشوق، أنني أتوق لإعادة قراءة قصتين من القصص التاريخية، الأولى، قال عمرو بن هند ملك الحيرة يفتخر بقوة ملكه في مجالسه عند ندمائه وجلسائه، هل تعلمون امرأة من العرب تأنف من خدمة أمي؟ فقالوا نعم، إنها ليلى بنت المهلهل فوالدها المهلهل، وعمها كليب وبعلها كلثوم بن مالك فارس العرب، وابنها عمرو بن كلثوم السيد المطاع في قومه، فأرسل عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يدعوه لزيارته، كما أن أمه هند دعت ليلى أم عمرو بن كلثوم للقرابة بين المرأتين في ظاهر الأمر، فالمرأتان تمتان بنسب قرابة لأسرة امرئ القيس، الشاعر المشهور وآخر ملوك كنده في نجد، أما ما خفي من الأمر على عمرو بن كلثوم وأمه فهو إهانه ليلى بنت المهلهل من قبل هند أم ملك الحيرة، وقد قدم الوفد التغلبي، ومنه وجوه تغلب، فاستضافهم عمرو بن هند، كما أن أم الملك استقبلت أم عمرو بن كلثوم، وكانت هند أبعدت الخدم بعد أن وضعت المائدة فطلبت هند من ليلى أن تناولها طبقاً فقالت ليلى: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فكررت هند الطلب وألحت فيه، فصاحت ليلى - وآ ذلاه! يا تغلب فسمع عمرو بن كلثوم استغاثة أمه، فغضب أشد الغضب والتفت إلى سيف معلق، فانتزعه من موضعه وضرب به رأس عمرو بن هند، وانتهبت ممتلكات عمرو بن هند. وقال عمرو بن كلثوم معلقته المشهورة:

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبرك اليقينا

بأنا نورد الرايات بيضا

ونصدرها حمراً قد روينا

(*) عمرو بن هند - يكنى بأمه هند.

وقوله..

متى ننقل إلى قوم رحانا

يكونوا في اللقاء لها طحينا

يكون ثفالها لها شرقي نجد

ولهوتها قضاعة أجمعينا

(*) الثفال: جلد يجعل تحت الرحى!

القصة الثانية من القصص الخيالية، فيقول الدكتور الناقد عبدالعزيز الفيصل:

التوابع والزوابع قصة أدبية خيالية، أنشأها ابن شهيد. معتمداً على توابع الشعراء والكتّاب، وعلى الزوابع في مطارحة الشعر ونقده، والتوابع جمع تابع أو تابعة وهو الجني أو الجنية يتبعان الإنسان الموهوب فيوحيان إليه ما يرغب فيه من شعر أو نثر، والزوابع جمع زوبعة والزوبعة الشيطان أو الجني.. وهناك أمثلة كثيرة مثل قصيدة ابن شهيد، حينما اعتراه شيء من الملل قبل موت الحبيب، فتقدم وشرع في رثاء من كان يهواه، فلما وضع بعض أبيات ارتج عليه فلم يستطع المتابعة، وفي تلك اللحظة برز له جني اسمه زهير بن نمير فأسعفه ببقية القصيدة ولقنه أبياتاً ينشدها عندما يحتاج ابن شهيد إلى تابعه زهير بن نمير وبعد توقفه هذا أصبح ابن شهيد ينشد تلك الأبيات كلما احتاج إلى حضور تابعه فيحضر ويوحي إليه بما يريد من الشعر!

وقد استمع جني يدعى (فرعون بن الجون) لأشعار كثيرة لابن شهيد، ويقول ابن شهيد في وصفه ل(فرعون بن الجون): كأنه هضبة. لركانته وتقبضه، ويقول لزهير: من هذا الجني؟ فقال لي: استعذ بالله منه. أنه بصق في عين رجل فندرت من قفاه.

استمد الشعر الجاهلي قوته من عدة أمور ترتبط بالحياة الجاهلية وتقاليدها ومنها ارتباط الشاعر الفحل بشيطان، وتعظيم الآباء والفخر بالإنسان والانتصارات القبلية، فنلحظ اعتماد الشاعر الفحل على شيطان يوحي إليه بالشعر!

فشيطان امرئ القيس (لافظ بن لاحظ) وشيطان الأعشى (مسحل السكران بن جندل) وقد قال فيه الأعشى:

وما كنت شاعراً ولكن حسبتني

إذا مسحل سدى لي القول انطق

شريكان فيما بيننا من هوادة

صفيان جني وإنس موفق

يقول فلا أعي لشيء أقوله

كفاني لا أعي ولا هو أخرق

(*) وشيطان عبيدة بن الأبرص الأسدي (هبيد).

والشعراء الذين لا يرتبطون بشيطان أقل شأنا من غيرهم، وشعرهم أقل سيرورة في أحياء العرب، فهذا تقليد جاهلي متعارف عليه.

قصة التوابع والزوابع مرتبطة بأماكن قرطبة وبسني عمره، وبعض شخوص القصة له ارتباط بالبيئة القرطبية في المكان والزمان مثل صديق ابن شهيد أبي بكر بن حزم، وخصوم ابن شهيد ومنهم أبو محمد وأبو بكر، وأبو القاسم الإفليلي، عاشوا في قرطبة في حياة ابن شهيد، وجل أحداث التوابع والزوابع وقعت في بلاد الجن وترتيبها الزمني مرتبط بحياة ابن شهيد وقد سمى لنا ابن شهيد أماكن من بلاد الجن تقابل مثيلاتها من بلاد الإنس، فتابع امرؤ القيس بن نوفل في سقط اللوى وحومل من بلاد الجن، وتابع أبو نواس أبا الإحسان بدير حنقه بقرب الكوفة، من بلاد الجن، وتابع البحتري في ميدان امام قصر مالك بن طوق واسمه أبو الطبع، وتابع أبو القاسم الإفليلي، أنف الناقة، من سكان خيبر! وإذا كان ابن شهيد قد سمى هذه الأماكن من بلاد الجن فإنه أهمل كثيراً من بلاد الجن التي زارها وقابل فيها الشعراء والكتّاب ونقاد الجن وحيوانات الجن، فتابع طرفة، عنتر بن العجلان في وادي الأرواح، وتابع قيس بن الخطيم أبا الخطار في بلاد الجن، وكذلك تابع أبو تمام - عتاب بن حبناء - وتابع المتنبي، حارث ابن المغلس... وزمن حياة ابن شهيد معروف واسمه كاملاً أحمد بن عبدالملك بن أحمد بن شهيد، وكنيته أبو عامر، وهو من قبيلة أشجع من قيس عيلان، ولد في قرطبة وتوفي فيها سنه 426هـ وعمره أربع وأربعون سنة!

لذا أرى أن الدكتور الأديب عبدالعزيز الفيصل، لم يذهب بعيداً حينما أورد لنا شيئاً عن قصة ابن شهيد في توابعه وزوابعه، من شياطين الشعراء والكتّاب الملهمين لهم شعراً ونثراً، وذلك لما كنا نعرفه ونورده من وصف حينما نقول: الشاعر الفلاني (مخاوي)، أي صديقه جني أو لديه (قرين) مرافق والمعنى واحد هو مصاحبة شيطان ملهم فيما يبدر من عظمة شاعر وبراعة كاتب!!

الكاتب الأديب الدكتور عبدالعزيز الفيصل، صاحب مؤلفات عديدة بالمكتبات المحلية، فضلاً عن المكتبات العربية، وإذا ما تمعنا في نتاجه الغزير سنجد أنه ذو قيمة ثمينة ويحظى بمقامة راقية عند القارئ المحب على الاطلاع في الأدب قديمه وحديثه، والمؤلف ذو باع طويلة بالأدب العربي، نرى ذلك في مؤلفاته ومنها: (شعراء بني قشير في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي - في جزأين)، و(شعر بني عقيل وشعرهم في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي - في جزأين)، و(شعر بني عبس في الجاهلية والإسلام حتى آخر العصر الأموي جمعاً وتحقيقاً - جزأين)، و(ديوان الصمة بن عبدالله القشيري، جمع وتحقيق)، و(قضايا ودراسات نقدية)، و(من غريب الألفاظ المستعمل في قلب جزيرة العرب)، و(مع التجديد والتقليد في الشعر العربي)، و(وقفات على الاتجاه الإسلامي في الشعر العربي)، وعودة سدير (ضمن سلسلة هذه بلادي)، و(الأدب العربي وتاريخ (مقرر) نشر جامعة الإمام محمد بن سعود)، و(وطن يعبر القرن)، و(شرح المعلقات العشر - جزأين)، و(شعراء المعلقات العشر)، و(معجم عودة سدير)، و(رؤى وآفاق) ثلاثة أجزاء!!

ذلك هو نتاج أديبنا الكبير الدكتور عبدالعزيز الفيصل.. وما قدمتُه عنه هنا ما هو إلا شيء يسير من كثير، عن كتابه (قضايا أدبية) والذي أهداني أستاذنا الدكتور عبدالعزيز نسخة منه، عبر ابنه الكاتب الصحفي الزميل بصحيفة الجزيرة الأستاذ محمد بن عبدالعزيز الفيصل، شاكراً لهما أريحيتهما في الإطراء ب(بالإهداء الجميل)، وآمل إن وفقت بتلك المقالة أن يكون الوفاق مثلما هو متوافق بزمالة حرف ما بين الأدب والصحافة!!

محمد بن حمد البشيت - جدة

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد