Al Jazirah NewsPaper Saturday  31/07/2010 G Issue 13820
السبت 19 شعبان 1431   العدد  13820
 

الشعر وما ينتج عنه من تعظيم الذات (الأنا)
جعفر عبدالله الوردي

 

إن هذا النوع من الكلام البديع، بكيفياته وطرقه وما يتضمن من صوره وتعابيره ينشي الروحَ، ويبعث في النفس الإبداع والافتخار بالذات.

عرفَ العربُ منذ القديم الشعر، وكان له وقعٌ كبير في كل شؤونهم صغيرها وكبيرها، وعقدوا له المحافل، وأنشأوا الأسواق، واحتفوا بالشاعر ومجّدوه، وجعلوه لسان القبيلة الناطق، وسفيرها الذي يدوّن أخبارها ويرفع ذكرها.

ولما كان للشعر كل هذه الحفاوة، مصحوبة بتعظيم الناس للشاعر والانبهار بما يكتبه وما يلقيه، جعلتْ في نفس الشاعر حبّ الذات (الأنا) وتعظيمها والانبهار بها، فمجّد نفسه ومدحها ولم يرَ غيره شيئاً أمام ذاته.

الشعرُ هو من بعث فيه هذا الشعور، لأنه ضرب الإلهام، ولذلك كثيراً ما كانوا يربطون الشعر بالشياطين والجن، ويسمون مُلهِم الشعراء بشيطان الشعر، لأن العرب كانت تنسب كل شيء بديع وملهم إلى الشياطين والجن، لاعتقادهم بأنهم يفعلون ما لا يستطيع البشر فعله.

والشعر في الحقيقة إلهام، ولكني أربأ بهذه التسمية أن تقال، من وَسْمِ إلهام الشعر ب شيطان الشعر، فلا تصح لا معنى ولا مبنى.

فالشعر إلهام وإبداع يجتمع في ذهن إنسان مبدع ماسكٍ زمام الألفاظ، متمكن من إيتاء المعنى والوصف على أتم حالة وأبهرها. فتراه حينها ينبهر بنفسه وينتشي نشوة ما فوقها نشوة.

ولا يصح أن نقول: إن هذه النشوة وحب الذات هي نفسها مرض النرجسية (Narcissistic) الذي يعني حب الإنسان ذاته.

بل بينهما بونٌ ملحوظ، إذ مرض النرجسية ناتج عن مرض نفسي عند الشخص، أما في الشعر فهو ناتج عن قمة الصحو، وتوقد العقل، وتفتّح المدارك، فلا يصح إلحاق هذا بذاك.

فهذا الإلهام في الشعر وهذا الإبداع هو الذي يُنطق الشاعر بأن يمتدح نفسه، وأن يتحدى غيره، وأن يرى نفسه - بما يصدر منه من شعر- أعجوبة في الإبداع والفن.

وقد تجلت هذه (الأنا) عند الشعراء قديماً وحديثاً، فنرى الشاعر الجاهلي عنترة يقول:

فلئن بقيت لأصنعنّ عجائباً

ولأبكمنّ بلاغة الصفحاء

فنلاحظ قوة الاعتداد بالنفس وشدة الحماسة بأنه لا يغلَب في الفصاحة والقول. وغيرها من أقوال شعراء الجاهلية كثير.

ونأتي إلى العصر الإسلامي فنجد الصحابي حسان بن ثابت يقول:

من للقوافي بعد حسان وابنه

ومن للمثاني بعد زيد بن ثابت

فجعل القوافي منوطة به، ولا يمكن أن تتعدى لغيره، لأنه المبدع وليس ثمة مبدع غيره.

وإذا نزلنا إلى العصر العباسي نجد أبا العلاء المعري رافعاً رأسه شامخاً يقول:

وإني وإن كنت الأخير زمانُه

لآتٍ بما لم تستطعه الأوائلُ

فنرى قوة (الأنا) دون منازع، فلم يقتصر تعاليه على أهل عصره، بل شمل من سبقه ومن سيلحقه، وتجده يكثر من الانبهار بنفسه في شعره.

وهكذا غيره إلى عصرنا هذا، بل وما أكثرها في عصرنا، ولعل الشاعر في عصرنا أشد إعجاباً بالذات (الأنا) من غيره من العصور الفائتة، ذلك لتفشي العامية وإعراض الناس عن العربية الفصحى، فيرى من نفسه أنه يأتِ بأشياء عجز الكثير عن الإتيان بها، فتظهر (الأنا) جليّة.

أما عن الحكم على هذه (الأنا) فيمكننا القول بأن الشعر إبداع وإلهام، والملهم هو الله سبحانه الذي منّ على هذا الشاعر ووهبه هذه الفصاحة. فيلحق الشكر والاعتراف بالفضل لله تعالى، ولا بأس أن يتحدث بها من باب التحدث بنعمة الله التي أمرنا الله بها لكن دونما تعالٍ وغرورٍ وفوقية.

هذا ما أردنا تسليط الضوء عليه من (الأنا) في خلدِ الشاعر. وبالله التوفيق، والله أعلى وأعلم.

الأحساء - الهفوف

gafrwrd@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد