|
لم تكن أغنية (الأماكن) التي صدح بها فنان العرب محمد عبده، تشكل استثناءً في تجربة أبو نورة الفنية في الفترة الأخيرة فحسب، بل إن هذه الأغنية أعادت للفن الأصيل شيئاً من كبريائه المفقود، في الوقت الذي طغت فيه السطحية والابتذال على الساحة الفنية، وإذا كان نجاح الفنان الكبير محمد عبده في أداء الأغنية بشكل رائع لا يعد غريباً على فنان بهذا الحجم، وهو صاحب الحنجرة العذبة الندية، إلا أن الأماكن أضافت كثيراً لملحنها ناصر الصالح، أما الضلع الثالث في معادلة نجاح أغنية (الأماكن)، فهو بمثابة حجر الزاوية لهذا العمل الفني الإبداعي المميَز، وهو الشاعر منصور الشادي. ومع أن منصور الشادي لم يفصح عن شخصيته الحقيقية بشكل رسمي حتى الآن، إلا أن ثمة تكهنات أو تسريبات من قبل مقربين من منصور الشادي، ربما حددت ملامح هذه الشخصية، وأياً كان منصور الشادي، فيجب التعاطي معه على أساس ما قدمه من شعر، بغض النظر عن الاسم ومن يكون، وأي قراءة منصفة لأي شاعر يجب أن تتم بمعزل عن شخصه، حتى يقيم عطاؤه الشعري على أساس فني بحت.. أعود إلى أغنية (الأماكن)، والتي دارت حولها هي الأخرى العديد من الأسئلة وعن حقيقة كاتبها، حيث زعم أكثر من شاعر أنه صاحبها، إلا أنها في النهاية سجلت باسم الشاعر منصور الشادي وهذا هو الأساس الذي يجب التعامل معه ما لم يثبت العكس، وبعيداً عن هذه الضجة والصخب الذي صاحب نجاح هذه الأغنية، إلا أنها جاءت بكلمات راقية، وتحمل حساً شعرياً رفيعاً:
|
المشاعر في غيابك |
ذاب فيها كل صوت |
والليالي من عذابك |
عذبت فيني السكوت |
وصرت خايف لا تجيني |
لحظة يذبل فيها قلبي |
وكل أوراقي تموت |
وآه لو تدري حبيبي |
كيف أيامي بدونك |
تسرق العمر وتفوت |
ومع أن (الأماكن) كشفت عن شاعر جميل خلفها، إلا أني لست أدري عن سبب غياب منصور الشادي عن النشر، واختزاله للظهور من خلال بوابة الأغنية فقط، فمن يكتب بهذه الروعة، لا ريب أنه يحمل كل الأدوات الفنية القادرة على صياغة نص شعري مقروء باذخ، يضخ فيه صوراً شعرية جميلة، وأساليب بلاغية راقية، وغالباً ما تكون النصوص المكتوبة أقوى من الناحية الفنية من النصوص الغنائية؛ لأن الشاعر عندما يكتب النص للنشر المقروء فقط، فإنه يتحرر من قيود كتابة الأغنية التي تلزمه موسيقى شعرية قابلة للتلحين، واختيار ألفاظ رقيقة تناسب الغناء، وغالباً ما تكون الكتابة للأغنية سهلة وبسيطة وتندر فيها الصور الشعرية، والأساليب البلاغية التي تتجلى بوضوح في النصوص المكتوبة لغرض النشر فقط، إلا أني أراهن على أن شاعراً بهذه المقدرة، لابد وأنه يحتفظ في أدراجه بنصوص شعرية جميلة تحمل الكثير من الملامح الإبداعية، ولعل الشادي أراد أن يصل شعره سريعاً للمتلقي، فاختار الطريق الأسرع للانتشار وهو الظهور من خلال الأغنية.
|
ومع أن منصور الشادي أبدع في كتابة نص أغنية الأماكن، إلا أني لم أجد ذات الأمر في كتابته لأغنية (زدَ عليه) للفنان رابح صقر، فهذا النص كان عادياً إلى درجة كبيرة، ولا أراه يرتقي إلى أن يكون شعراً، إلا من حيث التزامه بالوزن والقافية، وما عدا ذلك لم أجد في نص أغنية زد عليه ما يستحق الوقوف عنده، حتى أني أستغرب من كاتب أغنية (الأماكن) أن يقع بسطحية وابتذال أغنية (زدَ عليه). يقول الشادي:
|
زدَ عليه الجور قلبي واجرحه |
هات ما عندك من أنواع العذاب |
عذبه لو طاب خاطرك اذبحه |
اقتل بقلبي زهر حلم الشباب |
قل لكل الناس سري وافضحه |
سو كل اللي تظن انه سراب |
ومن الواضح أن منصور الشادي كان يكتب هذا النص ليكون أغنية فقط، وهذا ما أبعده كثيراً عن الشعر، وإن قربه من الأغنية، وشتان بين الحالتين، فهو غاب في الأولى تماماً، وحضر في الثانية.
|
ولا يقتصر غياب الشاعر منصور الشادي، الذي أصبح رقماً مهماً في كتابة الأغنية، عن نشر نصوصه في الصفحات والمجلات المعنية بالشعر الشعبي فحسب، إلا أنه يغيب تماماً عن أي ظهور إعلامي في الساحة الشعبية، وهذا بدوره يثير العديد من علامات الاستفهام الأخرى التي رافقت اسم منصور الشادي منذ ظهوره كنجم شعري في كتابة القصيدة المغناة. فكيف؟ ولماذا؟ يغيب شاعر بحجم منصور الشادي من إعلام الساحة الشعبية؟ مع كونه اسماً مهماً فيها؟ ولماذا يفضل الصمت وعدم إجراء لقاءات صحفية، يكشف فيها عن جوانب مهمة في تجربته الشعرية، لاسيما وأن الإعلام الشعبي ومتابعيه ومحبي الشادي بشكل خاص، يترقبون حوارات صحفية له يكشف فيها عن تفاصيل كثيرة صاحبت تجربته الشعرية. وثمة قضايا كثيرة أثيرت، وأسئلة عدة طرحت لا يمكن أن يجيب عليها إلا منصور الشادي نفسه، ولعل من أهمها لماذا لا يظهر منصور الشادي ويدافع عن شاعريته، والنصوص التي اتهم بأنها قام بشرائها أو سرقتها، وهي قضايا طرحت بالعلن وفي عدة منابر مرئية ومقروءة في الوسط الشعبي، دون أن تجد أية إجابة من المعني الأول الشاعر منصور الشادي. ويعد منصور الشادي في الوقت الراهن من أكثر كتاب الأغنية انتشاراً، وله تعاونات فنية كثيرة مع مجموعة من الفنانين والفنانات العرب، منهم: محمد عبده، ونجوى كرم، ورابح صقر، وراشد الفارس، ولطيفة، وأصالة نصري، وعبادي الجوهر... إلخ، وفي رأيي الشخصي أن مستوى نصوص منصور الشادي الغنائية تتذبذب في مستوياتها من الناحية الفنية، فأحياناً تقرأ له نصاً رائعاً، وأحيانا تشعر أنه يكتب تحت هاجس الأغنية فيبتعد عن الشعر، وأحياناً أخرى تشعر أنك تقرأ له نصاً عادياً، لا تلمس فيه توظيفاً حقيقياً للأدوات الفنية بالشعر. إلا أن تجربة الشاعر منصور الشادي الشعرية تعاني بشكل واضح من الانفصال عن هم المجتمع، فتجد أنه لا يكتب إلا للأغنية، ومن أجلها فقط، فالشعر رسالة إنسانية سامية يجب أن لا تحصر في الكتابة للأغنية فقط، فالكتابة للأغنية أمر جميل جداً، ولكن الاقتصار بالكتابة للأغنية يعد عيباً يحسب على أي شاعر يقع فيه، فلابد للشاعر الذي يحمل تجربة شعرية ناضجة، أن يكتب في مختلف أغراض الشعر من وصف وحكمة ومدح ورثاء ووجدانيات وغير ذلك، فالشعر المقروء هو المحك الحقيقي الذي يمكن أن تقاس عليه القدرة الشعرية، إلا إن كان منصور الشادي يكتب مثل هذه القصائد ولكنه لا يظهرها، أما لعدم قناعته بمستواها الفني كنصوص شعرية مقبولة، أو لعدم قدرته على التواصل مع المحررين في المجلات والصفحات الشعبية وإقناعهم بنشر نصوصه، وعدا ذلك يكون منصور الشادي هو المقصر في الكتابة للأغراض الشعرية المتعددة، والتي يجب أن لا يتجاوزها كل شاعر حقيقي يؤمن بأن الشعر رسالة يجب أن تصرف في المقام الأول للتفاعل مع المجتمع وهمومه الإنسانية، وقضاياه المتعددة، والكتابة في مختلف أغراض الشعر من وصف ومدح ورثاء وحكمة وغير ذلك.. ختاماً أتمنى أن لا تكون تجربة منصور الشادي مجرد ظاهرة وقتية، فوجود اسم جميل بحجم الشاعر منصور الشادي في ساحة الشعر، وإن كان وجوداً بشكل غير مباشر، وأعني بذلك انحيازه لكتابة الأغنية عن التواجد في صفحات الشعر، إلا أن وجود شاعر يكتب بروعة أغنية (الأماكن) يعد مكسباً حقيقياً لساحة الشعر، ويكون تواجده أكثر إيجابية إن هو وظف موهبته الشعرية الجميلة للكتابة في مختلف أغراض الشعر، وحاول أن يوازن في حضوره بين الشعر المقروء وساحة الأغنية، ومنح نصوصه المقروءة المزيد من الاهتمام، واستخدم فيها أدواته الشعرية المميَزة، فإنه حتماً سيضيف الكثير لساحة الشعر، لا سيما إن أردف ذلك بحضور إعلامي واقعي وشفافية متناهية. وأقول إن العديد من علامات الاستفهام التي طرحت عن شخصية الشاعر منصور الشادي، ومن يكون؟، وبعضها حول أحقيته في بعض النصوص من عدمها؟، فإن مرد ذلك إلى كون الأسئلة لا يمكن أن تدور حول جماد، ولكنها تدور حول من يحدث حراكاً دائماً، ويستطيع أن يكون شخصاً فاعلاً ومؤثراً في أي مجال يظهر فيه.
|
|