Al Jazirah NewsPaper Thursday  12/08/2010 G Issue 13832
الخميس 02 رمضان 1431   العدد  13832
 

أعذب الشعر أكذبه
أ.د. عبدالكريم محمد الأسعد

 

هذا قول مأثور يتمثل بوضوح في أبيات كثيرة من الشعر العربي في مختلف العصور منها:

- خُلقت من الحديد أشد بأساً

وقد بلي الحديد وما بليتُ

- ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

- وأخفت أهل الشرك حتى أنه

لتخافك النطف التي لم تُخلق

- إذا بلغ الفطام لنا رضيع

تخر له الجبابر ساجدينا

أنا لا أعرف شعراً في الآداب العالمية كلّها له هذه النكهة العنترية الصاخبة، والنبرة العدوانية العالية، وفيه هذا المقدار الكبير من الألفاظ الحادة والمعاني المتوحشة والأغراض المخيفة التي رأيناها مجتمعة في الأبيات السابقة.

ولم ينظم أحد فيما أعلم مثل هذا الشعر في الآداب العريقة كالأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي أو الإسباني أو اليوناني والروسي أو الأوردي أو الصيني، ولا في الأدب العِبري أيضاً على الرغم من أن الإسرائيليين قد انتصروا على دولنا في جميع الحروب وأن العرب واليهود ساميون ينتمون إلى أصل واحد، فسبحان خالق الأمزجة المتفاوتة وقاسِمها وموزّعها على خلقه المختلفين.

والغريب أن النقاد العرب وسموا هذا الشعر بقولهم (أعذب الشعر أكذبه) فاستعملوا صيغتي (أفعل) للدلالة على التفضيل، ولم يكفهم القول (عذبُ الشعر كاذِبُه) بصيغتي الصفة المشبهة واسم الفاعل العاديتين.

وإذا كان هذا الشعر الأكذب هو الأعذب (كما قالوا) فماذا يمكن أن يُلقب الشعر الأصدق الذي يتألق بالرونق والجمال والبهاء مثل قول علي بن أبي طالب:

يغطي عيوب المرء كثرةُ ماله

يُصدق فيما قال وهو كذوب

ويُزري بعقل المرء قلّه مالة

يحمّقه الأقوام وهو لبيب

وقول بشار بن برد:

إذا كنت في كل الأمور معاتباً

صديقك لم تلقَ الذي لا تعاتبه

وقول أبي الأسود الدؤلي:

وإذا عتبت على السفيه ولُمته

في مثل ما تأتي فأنت ظلوم

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

وقول دريد بن الصمّة:

لقد أسمعت لو ناديت حياً

ولكن لا حياة لمن تنادي

ولو نارٌ نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في رماد

وقول حسان بن ثابت:

وإن أشعر بيت أنت قائله

بيت يقال إذا أنشدته صدقا

وقول المتنبي:

الرأي قبل شجاعة الشجعان

هو أول وهي المحل الثاني

وقول المعري:

إن حزناً في ساعة الموت

أضعاف سرور ساعة الميلاد

ضجعة الموت رقدة يستريح

الجسم فيها والعيش مثل السُّهاد

وقول الشافعي:

نعيب زماننا والعيب فينا

وما لزماننا عيب سوانا

ونهجو ذا الزمان بغير ذنب

ولو نطق الزمان لنا هجانا

وليس الذئب يأكل لحم ذئب

ويأكل بعضنا بعضا عيانا

وقول قيس بن الحطيم:

وكل شديدة نزلت بقوم

سيأتي بعد شدّتها رخاء

ولا يُعطى الحريص غنى لحرصٍ

وقد ينمي على الجود الثراء

وليس بنافع ذا البخل مالٌ

ولا مُزرٍ بصاحبه السخاء

وقول أبي البقاء الرّندي:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يُغرّ بطيب العيش إنسان

هي الأمور كما شاهدتها دُول

من سرّه زمن ساءته أزمان

وقول صفي الدين الحلّي:

وأحزم الناس من لو مات من ظمأ

لا يقرب الوِرْدَ حتى يعرف الصَّدرا

وأغزر الناس عقلاً من إذا نظرت

عيناه أمراً غدا بالغير معتبر

فقد يُقال عثار الرِّجل إن عثرت

ولا يُقال عثار الرأي إن عثرا

وقول الخنساء:

إن الجديدين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسد الناس

وقول علي بن الجهم:

كم عليل قد تخطّاه الرَّدى

فنجا ومات طبيبه والعُوّد

إن السمات العنيفة شديدة المبالغة وبالغة التعالي والتفذلك والتفاصح في اللون (الأكذب) من الشعر العربي هي التي تدغدغ النفوس غير السوّيه بالخيال الفارغ من أي مضمون جدّي، وبالشعور الطاغي بالعظمة الجوفاء وبالتفوق الموهوم، ويبدو أن هذه السمات هي التي حملت الأديب والعالم والمفكر المعروف الشيخ عبدالله القصيمي على تأليف كتابه الشهير (العرب ظاهرة صوتية).

إن ما عرضته في البداية من شعر (المنْفَخَة) الحماسي كأنموذجات يتضمن كلاماً كبيراً جداً يقابله فعل متواضع للغاية، وهو كلام يجعل نعطي أنفسنا حجماً ضخماً زائفاً ليس لنا، في حين أعطى غيرنا أنفسهم واقعاً مطابقاً أو مقارباً لإمكاناتهم الحقيقية، ولهذا تأخرنا وتقدموا في جميع الأوقات وفي كل المجالات.

ومن المؤسف أن نهتم أشد الاهتمام بالتركيز على الشعر العربي الذي يشُوبُهُ الادعاء والتفاخر والتباهي والعنترية المفرطة، وأن يحرص المعلمون على تدريس هذا الشعر لطلابهم من منطلق الاعتزاز بالعرب والعروبة أكثر من حرصهم على تلقينهم الشعر الرصين الجميل الجزل الأنيق الممتلئ بالحكمة الصائبة والتجارب الغنيّة وهو الأكثر في تراثنا الأدبي العظيم على امتداد الزمان، لتفاجأ الأجيال القادمة كما فوجئ جيلنا بعد أن تصدمهم الحقائق المرّة وتظهر لهم كما هي وليس كما يتخيلون بأن هذا الشعر الخرافي الأجوف الذي درسوه وحفظوه وصدقوا ما فيه ورددوه بفخر واعتزاز وهمٌ في وهم وتهويل بعيد عن الصدق مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى انفصام في الشخصية فضلاً عن خيبة الأمل.

ويدفعني إلى ما ناديتُ به من وجوب إعادة النظر في تدريس هذه النصوص الأدبية (الشوفينية) والسّقيمة الموغلة في التطرّف لناشئتنا (المسلمين) في مدارسنا ومعاهدنا وكلياتنا، وفي الترويج لها في تواليفنا وبين مثقفينا، وفي جعلها أساساً لا غنى عنه في (ترشيد) مستقبلنا سبب واحد هو أنها نصوص لم تكن في يوم من الأيام وخاصة في زمننا الحاضر تدخل في بابي المعقول والمقبول، ولا تتناغم أو تنسجم على الإطلاق مع روح الشرع الإسلامي الحنيف ونصوصه، فلا يمكن - والحالة هذه - أن يكون قول الشاعر:

خلقت من الحديد أشد بأساً

وقد بلي الحديد وما بليتُ

إلا مرفوضاً، ففيه تظهر (المنفخة) بلغة عوّام بلاد الشام في أقصى درجاتها فقد جعل الشاعر المفتخر نفسه من معدن يفوق معدن الحديد قوة وقسوة وصلابة حتى أن الحديد يفنى على الرغم من صفاته الصلدة، في حين أن الشاعر (الأكثر من حديدي) غير قابل للفناء مع أنه مكوّن من لحم ودم وعظم كلها سائل أو ليّن أو هش.

كذلك لا يُقبل شرعاً كما لم يقبل عقلاً قول الشاعر:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار

فاحكم فأنت الواحد القهار

لأنه يمثل ذروة التحدي للمشيئة الإلهية وفيه استعمال غثّ للأوصاف الربانية في وصف الممدوح مثل (المشيئة والأقدار واحكم والواحد والقهار)، وهذا كله كفر صراح وتبجح بواح لا يبقي لقائله إيماناً ولا يعصمه من وهدة الشرك إطلاقاً ويلقي به في قعر جهنم خالداً جزاءً وفاقا:

ومثل القولين السابقين قول الشاعر:

وأخفت أهل الشرك حتى أنه

لتخافك النطف التي لم تُخلق

إذ لا يتصور أحد أن التجديف (والهشت) يمكن أن يبلغا هذا الحد من تحدي المشاعر والدين والعقل في أشد الصور استفزازاً، فقد لا يُستغرب أن يخافك الوجود وأهله، ولكن الذي لا يمكن قبول أو تخيل إمكانه أن تخشاك النُّطف التي ما زالت تكمن في الأجنة في طور (شبه العدم) قبل أن تتحول إلى الوجود.

وقول الشاعر:

إذا بلغ الفطام لنا رضيع

تخرّ له الجبابرة ساجدينا

وهذا مرفوض شرعاً وغير مقبول عقلاً، ذلك أن السجود لا يكون بالطبع إلا لله، أما السجود لغيره فهو شرك صريح بلا خلاف، كما أن المبالغة الخيالية في هذا البيت تكمن في (الجبابر) الذين سيخرّون (حتماً) لرضيعنا المفطوم سجداً كما ادّعى الشاعر، فماذا هم فاعلون - يا ترى - إذا أصبح هذا الرضيع طفلاً ثم يافعاً فشاباً مفتول العضلات فكهلاً فشيخا؟!

إن هذه الأبيات ونحوها لا تعدو - في الحقيقة - أن تكون لوحات مشوّشة رُسمت فيها أوهام العظمة مجسمة في أجلى معانيها، وظهر فيها الغرور والكِبر بشكل فاق كل حد حين تناسى ناظموها ذم الله المتكبرين وثناءه على التواضع والمتواضعين بقوله {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} (على القراءة السبعية المشهورة)، وحين غفلوا عن استكناه قول المعري:

خفّف الوطأ ما أظن أديم

الأرض إلا من هذه الأجساد

وقول كعب بن زهير:

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يوماً على آلة حدباء محمول

هذه الحقائق التي عرضتها من خلال الأبيات (الخيالية) التي سُقتها في أول المقال يعرفها تماماً علماؤنا الأجلاء الذين كانوا وما زالوا وسيبقون (بأمر الله) الحريصين على آثارنا الفكرية كحرصهم على أوضاعنا الحياتية ودفعهم كل ما يمكن أن يكون قد شابهما أو شانهما أو علق بهما من المخالفات الباطلة.

كم كنت أتمنى أن لا أجلد الذات، وأن يكون عنوان مقالي هذا (أعذب الشعر أصدقه) وليس (أعذب الشعر أكذبه)، ولكن للأسف الشديد (ما باليد حيلة) كما يقال.

* أستاذ سابق في الجامعة

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد